شعار قسم مدونات

الاستعمار اللغوي

blogs - arabic language
بعد عامين تليا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نشرت صحيفة واشنطون بوست مقالاً للكاتبة سوزان جلاسرتشجع فيها البلاد العربية على انتهاج خطط تعليمية أكثر انفتاحاً، وضربت مثلاً بإحدى الدول العربية التي أصبح نظامها التعليمي "يحوي الكثيرمن الإنجليزية والقليل من الإسلام"! أثار هذا المقال منذ عام 2003 ضجة اختلطت فيها السياسة واللغة، والثقافة والدين، والعلم والوهم، وعُقد عدد من المؤتمرات وكُتبت الدراسات في دعم أو تفنيد وجهات النظر التي ربطت الأيديلوجيا باللغة.

كان من تلك المرافعات مقالة للكاتب اللغوي سهيل كرماني نشرت عام 2005 في المجلة اللغوية الشهيرة (Applied Linguistics) بعنوان (الإنجليزية، الإرهاب، والإسلام)، حيث تساءل الكاتب اللغوي كرماني: هل يمكن لنا أن نضع الثنائية الآتية "إنجليزية أكثر وبوذية أقل، إنجليزية أكثر وسيخية أقل، إنجليزية أكثر ويهودية أقل؟! أو حتى ما هو أشنع: عربية أكثر ومسيحية أقل؟".

وقبل ذلك بأكثر من عِقد كامل، خلص البروفيسور البريطاني روبرت فيليبسون في كتابه الإمبريالية اللغوية (Linguistic Imperialism) إلى أن تعليم الإنجليزية هو في الحقيقة فعل استعماري بأدوات لغوية. لقد مضى على كتاب فيليبسون ما يقرب من 25 عاماً، والبلاد العربية تنتقل في تعليمها من تعليم الإنجليزية الإلزامي إلى التعليم بالإنجليزية! من تعليم الإنجليزية لغةً إلى جانب لغات أخرى بما فيها العربية اللغة الأم (وهو أمر محمود)، إلى التعليم بالإنجليزية لتصبح اللغة الأولى في أنظمة التعليم وتمسي العربية لغة ثانية أو ربما ثالثة.

وبينما تتداعى الدول الأوروبية لمقاومة هذه الهيمنة اللغوية من خلال تبني التعددية اللغوية، فضلاً عن المحافظة على الإرث اللغوي الأصلي لكل بلد، فإن أنظمة التعليم العربية تتسابق إلى التعلق غير المنطقي باللغة الأجنبية.

نحن نفخر بلا شك بذلك الاهتمام الرسمي باللغة العربية حتى أصبحت العربية بفضل تلك الجهود لغةً عالمية ضمن اللغات الست المعترف بها دولياً. غير أن التخطيط اللغوي في البلدان العربية لا يبدو منضبطاً من جهة، ولا يبدو حقيقياً من جهة أخرى. إذ تتناقض تلك السياسات الرسمية مع الاستراتيجيات المؤسسية وخاصة في مجال التعليم العام والعالي وفي المجالين الاقتصادي والدبلوماسي (عبدالقادر الفهري، السياسة اللغوية في البلاد العربية، 2013).

إن اللغات حينما يغتالها المستعمر فإنها تذهب بإرث ثقافي ضخم هو محصلة الخبرات العلمية والتقاليد الاجتماعية الغنية والديانات والعقائد الخاصة بالبلد المستعمَر لغوياً.

لقد حفلت الندوات التي أُقيمت احتفالاً باليوم العالمي للغة العربية بعشرات المبادرات والتوصيات التي ترفع من شأن العربية وانتشارها على سبيل المثال، إلا أن لغة التعليم في العالم العربي تتناقض بشكل صارخ مع هذه الاحتفالية. في إحدى تلك الندوات أشارت المتحدثة سارة ظاهر إلى أن نسبة التعليم باللغة الأجنبية في البلاد العربية تساوي 75%! بعض الجامعات العربية تفرض لغة أجنبية للتخاطب والمحاضرة والكتابة في المواد والمقررات الجامعية جميعا، ربما عدا مواد الدين الإسلامي واللغة العربية (وبعض البلاد العربية تعلم اللغة العربية بواسطة الإنجليزية أو الفرنسية!)، كما تشجع الجامعات الأساتذة على النشر باللغة الإنجليزية حصراً… وتلك سياسات تخالف هذا الاتجاه الرسمي وغير الرسمي لدعم اللغة العربية، وتبقي العِلم الذي يحصّله أبناء البلاد العربية غريباً عنها وعن ثقافتها، وأجنبياً عن هويتها. وهكذا سيبقى العلم أجنبياً على الدوام، وتبقى العربية في العقل الجمعي لغة لا تقوى على حمل العلم، كأن اللغة العربية لم تحمل منارة العلم وشعلته إلى الأوروبيين في قرونهم الوسطى، وكأن كل أبناء الوطن العربي اليوم مجرد عاملين مقيمين افتراضيين في البلدان الأجنبية!

إن الفكرة التي لا يستطيع بعضهم قبولها هي أن لغة أخرى قادرة بالفعل على تهديد الأمن الفكري واللغوي. ومع كل الأسف فإن تلك الفكرة حقيقة ثابتة لدى علماء اللغويات بشكل لا يدع مجالاً للرفض، فالدراسات الاجتماعية اللغوية تعرض المتلازمات الأيديولوجية والثقافية الثابتة التي تأتي في حقيبة واحدة كتلك التي تأتي مع التعليم بالإنجليزية أو بأي لغة أجنبية.

إن اللغات حينما يغتالها المستعمر فإنها تذهب بإرث ثقافي ضخم هو محصلة الخبرات العلمية والتقاليد الاجتماعية الغنية والديانات والعقائد الخاصة بالبلد المستعمَر لغوياً. تأمل الاستلاب الثقافي الذي عانت منه المقاطعات المحيطة بإنجلترا، بسبب السياسات الاستعمارية اللغوية حيث ذهبت لغة الإيرلنديين والسكوتلنديين أدراج الرياح ولم يعد إلا النزر اليسير (أقل من 2 %) يتحدثها وأقل من ذلك من يكتب أو يقرأ بها. لقد استعادت إيرلندا استقلالها، لكنها لم تستطع استعادة لغتها! أما السياسات اللغوية الفرانكفونية فهي أشد ضراوة ويشهد الشمال والوسط الأفريقي غياباً للغات المحلية واندثاراً للثقافات الشعبية وسط صمت كصمت القبور التي وارت لغات أولئك البشر كما وارتهم هم. لقد وصل الاستلاب اللغوي والثقافي في تلك البلاد على سبيل المثال إلى أن يكون نشيد العلم في السنغال المستقلة بلغة المحتل الذي ذهب وبقيت لغته وثقافته وهُويّته!

وحينما يطول التغييرُ بفعل الاستعمار اللغوي نظامَ الكتابة، بحيث يتيغير إلى الكتابة بحروف مختلفة، فنحن أمام قطيعة ثقافية تُرتكب في حق الأجيال اللاحقة وتاريخ المجتمع وسجلات ذاكرته، وقد حصل هذا التغيير القسري للغة التركية التركية والأندونيسية والسواحلية والكردية وغيرها، لتُكتب بالحروف اللاتينية، بدلا من الحرف العربي. وأصبحت الكتب المكتوبة بالحرف العربي لتلك اللغات القومية ـ في ظل نظام التعليم الأجنبي ـ غريبة فريدة تسكن المتاحف أكثر من المكتبات.

اللغة وعاء الثقافة الشعبية، ومستودع الذاكرة العلمية، والمأرز الثقافي لأجيال المستقبل. وإن العبث بها ليس كالعبث بالبطاقة التعريفية فقط، بل هو عبث مدمر لعدد من الشرائح المركبة في الأنا الثقافية للإنسان.

وفي الجانب المضيء، فقد شهدنا محاولات العودة للإرث القومي اللغوي، كتركيا التي أعادت الاهتمام بتعليم العربية والكتابة بالعثمانية، بدلاً من اللاتينية. وقامت مقاطعتا ويلز وسكوتلاند في بريطانيا بإعادة الاحترام للغتيهما في لوحات الشوارع وفي النظام التعليمي، كما فرضت تونس عدداً من التشريعات المهمة، وأوصلت إيرلندا لغتها المندثرة إلى الاعتراف الرسمي من قبل الاتحاد الأوروبي سعياً إلى إعادة إحيائها.

إن من المهم جداً أن تجدّ الدول العربية في تنفيذ السياسات اللغوية الإيجابية الموجودة أساساً في المواثيق والأنظمة العربية منذ نصف قرن على الأقل، وأن تساهم في تحسين نماذج التخطيط اللغوي وتطبيقاته وخاصة ما تعثر منها، ويمكن إجمال الأولويات في أربع خطوات:

أولها: إعادة الأهمية القومية للغة العربية في مراحل التعليم كلها وإحلالها محل اللغات الأجنبية التي استحلت النظام التعليمي.
ثانيها: استرجاع الوهج الثقافي والمركز الاجتماعي للغة العربية والدفاع عن ذوبانها التدريجي على لوحات الشوارع واللافتات الكبرى، وفي صيغ العقود والمكاتبات التجارية، وفي المناسبات الرسمية والدولية والدبلوماسية، ودعم الخط العربي بوصفه نوعاً من الجمال الفني القومي في المجال البصري العام.
ثالثها: تعليم اللغات الأجنبية والسماح بما يسمى التعددية اللغوية والاتصال باللغات الشرقية وخاصة الصينية واليابانية، للعمق الثقافي والأهمية الاقتصادية، مع بقاء اللغة القومية في مركزها الأول.
رابعها: دعم الترجمة من العربية وإليها وتعريب العلوم وتوطينها وتوفير المراكز المتخصصة.

غنيٌ عن القول إن اللغة وعاء الثقافة الشعبية، ومستودع الذاكرة العلمية، والمأرز الثقافي لأجيال المستقبل. وإن العبث بها ليس كالعبث بالبطاقة التعريفية فقط، بل هو عبث مدمر لعدد من الشرائح المركبة في الأنا الثقافية للإنسان. إنه عبث بالهُوية ومساس بالتاريخ العلمي، بل هو استهداف للعقل الجمعي، ولما يتصل بعمليات التفكير وطرائقه ونواتجه. وما لم يكن التخطيط اللغوي واعياً لسياسيات الاستعمار اللغوي، وما لم يكن التطبيق راشداً في تنفيذ السياسة اللغوية العربية، فإننا سنصحو يوماً لنقول لبعضنا جميعا "Good morning guys"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.