شعار قسم مدونات

متى تنام الأمهات؟

الأم

سؤال يراودني مع اقتراب يوم الأم في 21 آذار (مارس):
متى كانت تنام أمي؛ أجمل الأمهات؟ 

وكل أمٍ هي أجمل الأمهات لطفل رضع من صدرها ونما من عظامها. وكل أم هي أجمل الأمهات لفتى ترعرع في ظلها وتعلّم من كرّاس حياتها. وكل أم هي أجمل الأمهات لشاب يختال نهاراً، لكنه يلجأ آخر الليل إلى أمان حضنها. وكل أم هي أجمل الأمهات لرجل أصبح أباً، فعرف معنى أن تقلق عليه أمه، فعاد ليطلب منها الدعاء، وهو سلاح من لا سلاح له. أراها بعد ثلاث سنوات من غيابها، في كل زفرة نفَسٍ شهقته، وفي كل تنهيدة صدر، ونبضة قلب. ما زلت أشعر أن أكثر فترات الأمان في حياتي كانت في ظلها، في دعائها، في الإمساك بطرف فستانها وأنا أقطع الطريق بثقة كأنني في ظل لبؤة يخشاها سائقو السيارات في ذلك الطريق.

اليقين الوحيد لدي أنها نامت، كان حين لم تكن نائمة. بل حين توفّيت.. ولم تستيقظ رغم أنني حاولت أن أوقظها. حين كلّمتها طويلاً، وكم استغربت حينها من طول إنصاتها دون أن تجيب.

تعاودني مشاهد حياتي، ولطالما كنت أتساءل: متى تنام؟ كنت كطفل صغير يراها كيفما تحرك، قبل الفجر تجهّز اللبن (الزبادي) لدكاننا، وبعد الفجر تجهز الفطور، وتوقظنا إلى المدارس، وتودّعنا صباحاً وتنطلق إلى الدكان، ثم تسبقنا إلى البيت لتعدّ الغداء قبيل وصولنا. وتغير لنا ملابس المدرسة، وتتابع شؤوننا المدرسية والاجتماعية، وتهتم بنظافتنا وطعامنا، ثم تعود إلى الدكان، لتتابع البيع والشراء. فكانت تحسب المجاميع مع تجار الجملة شفهياً، وهي التي لم تدخل المدارس.

متى تنام أمي؟
اليقين الوحيد لدي أنها نامت، كان حين لم تكن نائمة. بل حين توفّيت.. ولم تستيقظ رغم أنني حاولت أن أوقظها. حين كلّمتها طويلاً، وكم استغربت حينها من طول إنصاتها دون أن تجيب. كان همّها تعليمنا، وحمايتنا في مسيرة العمر. تعليمنا، لاعتقادها أنه السلاح الذي سينتقل معنا أينما ذهبنا، فكانت تحاول تدريسنا بما علّمت به نفسها، ولم نكن نعرف أنها لم تدخل المدارس، فكنا نعتمد عليها.

وحمايتنا، لاعتقادها أن مناطق الحروب تحتاج خبيراً بالخرائط والقوى المؤثرة، ابتداءً من الجيران حتى الميليشيات المتناحرة. فتسأل عن أصدقائنا وأهلهم من دون أن نعرف، وتتنقل بنا أثناء الحصارات من مكان إلى آخر، كما تنقل القطة أبناءها وتحميهم. فكنا كلما اقترب القصف أو الهجوم المعادي على المخيم، ننتظر منها الإشارة للتحرك المناسب. كانت تحرسنا في حصار مخيم تل الزعتر، وتحمينا، وتخدمنا. وبينما كنا نلعب ألعاب الأطفال القديمة (الزقاليط، والبنانير، وورق الشدة)، كانت هي تخطط كيف ستوفّر لنا قوت ذلك اليوم وكل يوم.

يسترجع الصغير (الذي أصبح رجلاً) أربعين سنة ليصل إلى تلك الليلة الطويلة والأيام التي سبقتها، لم يستطع أن يستخرج من ذلك الحصار (حصار تل الزعتر) مشهداً لأمه وهي نائمة، يتذكر أنها كانت "تخترع" الطعام لهم، تطبخ التمر والعدس في طبخات لم تكن موجودة في قاموس الطبخ من قبل (فهما أكثر الأطعمة المتوافرة في ذلك الحصار). تعمل ليلاً في فرن "الثورة" لتحضر فجراً بضعة أرغفة يأكلها أطفالها.. تتفقد الماء في المنزل، لترى إن كان يكفي لحمّامهم وطعامهم وشرابهم.. فالماء الذي كان في تل الزعتر "يخرج منه كل شيء ميت"، كان مصيدة القناصين حيث سقط كثير من الشهداء عند "حنفية" الماء القريبة من خطوط التماس.

 

جرح الأب.. أصابه القنّاص عند حنفية الماء، وخرج في سيارات الصليب الأحمر، ولم تعرف عنه شيئاً. في ثياب الأطفال دسّت الأم ما تبقى معها من مال ووزعت الذهب على "كمر" كل بنطلون. لم تكن تحضّرهم ليوم العيد.. ولم يكن هناك من أضاحي سوى الشعب الفلسطيني. نام الطفل، تاركاً أمه تخيّط الثياب.. وتعجن.. في الصباح، بدأ اليوم الطويل.. ألبستهم الثياب، وحملت "بقجة" أغراض وخبز على رأسها. واستطاعت إخراجهم من المخيم بعد معاناة طويلة دامت شهراً ليكتمل عقد العائلة مرة جديدة.

وتكرر المشهد في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حين حاصرنا العدو في بيروت. أدارت خطة خروجنا من بيروت إلى أماكن أكثر أمناً. وتكرر المشهد في حصار مخيم برج البراجنة عام 1985، خططت للبقاء.. أدارت مع ابنة خالي (ليلى) خطة توفير الطعام. حيث أدركت منذ اللحظة الأولى أن الحصار سيطول (واستمر الحصار طوال شهر رمضان وأيام العيد). وتكرر المشهد عدة مرات، مرات على شكل حصار، وأخرى على شكل مطاردات، وثالثة على شكل مرض فتَاك أو فقر مدقع.. ورابعة على شكل ظلم قائم واعتقال محتمل.

وفي كل الأحوال كانت تحمينا، مرة بجسدها، ومرة بتخطيطها الأمني، ومرة بالخطط الاقتصادية، ومئات المرّات بدعائها الذي كنت أوقن أنه سيصيب، لدرجة أنني كنت أطلب منها أن تدعو لشخص معين (كيحيى عياش) أو قضية معينة (حصار برج البراجنة). إلى هذه الأم.. في يومها.. أجمل زهرة مني ومن إخوتي على ضريحها الذي ألجأ إليه في أوقات الشدة.. لأقبّل جبينها الشامخ وخدها الدافئ وقلبها الأخضر.. فهي الآن نائمة هناك منذ ثلاث سنوات!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.