شعار قسم مدونات

ما عُدتُ أطيق القدس!

blogs - جريدة القدس
قريباً من القدس بعيداً عنها، كانت الشعارات أثقل من أن توزن بميزان الوطنية أو الانتماء، فلم يعد مجرد استعارة الاسم والهيبة والمكانة كفيلاً بإضفاء طابع من ذلك القبيل لتبرير أو تزييف أو اللعب بما يشبه المسلمات والبديهيات في واقعنا الفلسطيني المضطرب، فلا أقل منه أن تكون القدس قبلة الأمة جمعاء فيما يولّي بعضهم لها ظهره بقصد أو بغيره، متجاهلاً مكانتها أو محاولاً تبرير السوء بأسوأ مما يمكن تبريره.

ليس في الأمر غموض، وليس في الأمر أكثر من مجرد "إعلان" بعين القدس! هكذا وبكل بساطة تبرر لفعلتها القدس، فهكذا تراه عيناها المغمضة عن شرر الغضب في حدقات عيون الأحرار، فيما تسطع الحقيقة إزاء ذك الفعل المنكر الذي ابتدعته صحيفة العاصمة، وعين القدس – الصحيفة – وهي تكاد لا ترى إلا بعين واحدة لا تكاد تدرك حجم الجريمة التي ما زالت تراوح الزمان والمكان وأوراق الصحف المنتشرة في بيوت العاصمة والمدينة والوطن، وارتقت فيما مضى على سلّم من التفاعل سرعان ما خبا أمام وهج المدافعين والمنافحين والمبررين، وأمام ظواهر مماثلة لا تخفى على أي متابع للحالة الفلسطينية الراهنة وليس بعيداً عن "المنسق" فقصته ذات صلة وارتباط…

ما بدر من صحيفة القدس، والذي لعله لم يكن جديداً أو مدار اهتمام من قبل، ليس لشيء إنما لاندثار الصحافة الورقية أو تلاشيها – بشكل أدق – حيث ما عادت إلا لتكون على موائد الطعام، فإنه كان فيما مضى مقتصراً على نشر إعلانات بلدية الاحتلال في القدس تحت إطار ضرورات الاستمرار في نشر الصحيفة وضمان توزيعها في العاصمة، فحظيت الصحيفة بنوع من التناسي أو التجاهل، بيد أنه كانت تلوح في الأفق إدانات هنا وهناك بين الفينة والأخرى لكل فعلٍ مماثلٍ من قبيل الإعلانات الصادرة عن بلدية الاحتلال في المناسبات المختلفة على مدار سنين خلت، غير أن "بجاحة" القائمين على الصحيفة وصلت إلى حد غير مقبول على كل الصعد، تحدٍ للمشاعر الوطنية في ظل اصطفاف دولي وعربي ومحلي في قضية الاستيطان التي يتداعى لنقضها الغرباء فأجمعوا على محاربة الاستيطان، غير أنه كان للقدس ومن قلب القدس المحتلة أن تقف على مسافة ليست بعيدة من الاحتلال لتنشر إعلانات خاصة للمناقصات الاستيطانية! في سابقة خطيرة في تاريخ النضال الفلسطيني واستهتار مرفوض للمستوى المنحدر الذي آلت إليه الصحيفة "الفلسطينية".

إنْ ترك المجال والباب مفتوحاً فإنَّ الانحدار لن يقف عند هذا الحد، بل وسيتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، فأنقذوا الإعلام الفلسطيني قبل أن ينزلق حيث المستنقع البشع الملطخ بالعار.

في الصدر ولم تكن في الظهر فقط تلك الطعنة التي وجهتها الصحيفة المقدسية للقضية الفلسطينية، مما كان فيما مضى يندرج تحت مسميات كان قد تطرق لها الراحل الكبير صاحب كتاب فلسطيني بلا هوية ونوّه يومها إلى أنها ستكون يوماً عند البعض كوجهة نظر، ورأي يُحترم، وكأنه كان يتطلع إلى وجود هذا النوع، غير أن ما لم يكن ليتوقعه أن يشهد هذا النوع ازدحاماً في الطرقات الضيقة المؤدية حيث المعراج، حيث الطهر عند عتبة السماء.

ويبدو أن قريحة الميوعة الوطنية التطبيعية بدأت تتطبع في قلوب بعض الفلسطينيين وتلقى رواجاً عند عدد لا بأس به عند أولئك المفسّرين تلك الظاهرة باستعارات واهية ملتوية لليّ عنق المفاهيم وربطها بما لا يرتبط من الأفهام المغلوطة التي لم تكن فيما مضى لا تجد لها تفسيراً أكثر صراحة من الخيانة للمبدأ، فالصراحة إزاء ذلك لا بد أن تأخذ موقفاً حازماً يشمل الكل الفلسطيني بميثاق يضع المعايير في نصابها ويسمّي الأمور بمسمياتها، فما التعاطي مع الاحتلال بنشر إعلاناته الناهبة للأرض والمتمادية في إذلال ما تبقى لدى الإنسان الفلسطيني من هيبة يعتريها الوجع والضمور، والاتصال والتواصل مع حضرة "المنسق" إلا وصفة مجانية للدخول في عالم اللامبالاة الوطنية والغرق في بحر من الوحل لأسفل سافلين ينذر بفتح باب الخيانة غير المباشرة وصولاً إلى المباشرة منها وما خفي وراء تلك الرسائل والصفحات الفيسبوكية أعظم.

إن من واجبات الصحافة ومهامها بالعموم أن تكون ذلك المنبر التوعوي والتربوي والتصحيحي لمسارات العابثين والتائهين في مضمار الحياة المزدحمة بالمنغصات والمشكلات، بيد أنها في بلادنا المحتلة أوجب ما يكون أن تكون تلك الصحافة وطنية خالصة برسالة ناصعة لا يعتريها اللغط ولا تشتريها الأموال ولا تأبه لحسابات الربح والخسارة، فما يقدمه الفلسطيني كل يوم من حريته وأرضه ومن دمه ليس بالثمن البخس وليست أرض الأسراء بسوق نخاسة تُباع فيه الكرامة بأرخص الأثمان.

لم تكن مبادرة "القدس" الأولى، ولم يكن باعتقادي أن تتطور هذه الأفعال إلا نتيجة للسكوت، ولو أننا سمعنا بعض الصراخ بالصوت المنخفض وعلى خجل إزاء الجريمة السابقة التي اقترفتها الصحيفة يوم حلّ القاتل الصهيوني، وهو ما أسمته الصحيفة الفلسطينية بوزير"الدفاع" الصهيوني ضيفاً على الصحيفة بمقابلة تحاوَرَ فيها العدو والصديق تحت غطاء السبق الصحفي، أو لعل لديهم من المبررات ما هي أكثر سخفاً من مبررات الجريمة الأخيرة، وهي تحاور اليد الملطخة بالدماء عن السلام وعن القدس ولربما عن الاستيطان الذي باتت إعلاناته تملأ أوراق الصحيفة!

جدير بالاهتمام أن يكون لدى الإعلام الفلسطيني ميثاق شرف لأن ترك الأمور على غاربها إزاء التعامل مع الاحتلال وإعلامه إذ ما عاد يُكتفى بالنقل و"النسخ واللصق" من مواقع العدو بل وصل إلى إفراد صفحات ومساحات شاسعة على ماكينات الإعلام الفلسطيني، فإن ترك المجال والباب مفتوحاً فإن الانحدار لن يقف عند هذا الحد، بل وسيتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، فأنقذوا الإعلام الفلسطيني قبل أن ينزلق حيث المستنقع البشع الملطخ بالعار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.