شعار قسم مدونات

إسطنبوليات (2) حين خلعت المدينة ثوبها

blogs- دولما بهتشه
تبدو إسطنبول لزوارها من بعيد، مدينة حالمة، تستيقظ بكسل محبب على أشعة الشمس الباردة وهي تتسلق مياه البوسفور، قبل أن تشتد الشمسُ وترفع هامتها لتحية مآذن المساجد الرشيقة على مدّ البصر.. ينكشف الصباح هنا على مقطوعة تصنعها قرعات أقدام الصغار على أخشاب المنازل القديمة، وفقاعات غليان الشاي في الأباريق، وصوت بائع الكعك النشيط يشق صمت الحي.

كنت أظن أن سكان المدينة، تعتاد حواسّهم مصافحة هذا الجمال فيذهلون عن تفاصيله المدهشة، لكنّ نظرة ثانية تجعلنا نرى الركض الدؤوب الذي قد لا يتسعه نهار كامل، فيحمله سكان إسطنبول معهم حتى المساء، ويحملون معه متعتهم المؤجلة إلى عطلة نهاية الأسبوع، أو يختزلونها في بضع دقائق اعتادوا اختلاسها على شكل وجبة ساخنة في النهار، أو عودة إلى المنزل عبر سفينة تشق البوسفور مع الغروب.
 كلما زارنا أصدقاؤنا في إسطنبول، كنت أدرك أن السائح يعرف عن معالم هذه المدينة أكثر مني، ومن غالبية المقيمين الذين تطبّعوا بحالة الركض الدؤوب الذي تفرضه المدينة.. بعد أربعة أعوام هنا، قررت أن أنهي طوافي على جميع المعالم الهامة داخلها أسوة بالسائحين.
 

كان قصر "دولما بهشته" ابن مرحلة تاريخية تبارت فيها الممالك والامبراطوريات حول العالم، بعكس مظاهر قوتها عبر البذخ والتبارز بالثراء في البناء وأنماط حياة الملوك والسلاطين.

كانت محطتي الأخيرة في قصر "دولما بهتشه – Dolmabahçe" الممتد بمساحة فارهة على ساحل "بشكتاش"، وهو أفخم قصور الدولة العثمانية وأعلاها كلفة وأكثرها أبَّهة.. وهو القصر الذي سكنه ستة سلاطين، ولم يقاوم كمال أتاتورك إغراء الإقامة به حتى وفاته داخله عام 1938. من يزور "دولما بهتشه" لا يستطيع إلا أن يستحضر التاريخ! فالزائر تنتابه مشاعر مختلطة تتراوح بين الانبهار بعظمة البناء وسحر الطبيعة وفخامة الأثاث وإبداع النقوش.. لكنه في الوقت نفسه يرثى لحالة البذخ والترف المتجلية في كل مكان، إلى حدّ طلاء السقوف والجدران بالذهب، ورصّ الكريستال والأحجار الكريمة في الإنارات وعلى الخزائن بطريقة فظة.
 

كان قصر "دولما بهشته" ابن مرحلة تاريخية تبارت فيها الممالك والامبراطوريات حول العالم، بعكس مظاهر قوتها عبر البذخ والتبارز بالثراء في البناء وأنماط حياة الملوك والسلاطين.. وعلى نفس النسق جاء بناء القصر عام 1843 ليكون مقرّ الدولة، والمكان الذي تستقبل فيه الوفود الأجنبية من الأصدقاء والأعداء على السواء. استغرق تشييد القصر 13 عاماً كاملاً، تم خلالها بناء أقسامه الخمسة عشر، والتي تحتوي مجتمعة على 285 غرفة، 46 قاعة استقبال، 6 حمامات، 250 سجادة حريرية، و600 شمعدانة من الكريستال والفضة، إضافة إلى الثرية الأكبر في العالم التي تزن 4.5 طن من الكريستال وتحتوي 700 شمعة.

بلغت تكلفة القصر ما مقداره 35 طناً من الذهب، دفعتها خزينة الدولة العثمانية المتداعية فقراً وديوناً أواسط القرن التاسع عشر، وقد استُخدم 14 طناً من الذهب في طلي السقوف ووحدات التدفئة وبعض الجدران، أما الأثاث الداخلي فقد تم استيراده من أوروبا، وكذلك أطقم الطعام المصنوعة من البورسلان الفاخر، أو الفضة المطلية بالذهب. تلتبس على الزائر الهوية الحقيقية لقصر "دولما بهشته"، فهو لا يشبه تماماً بقية القصور العثمانية التي نعرفها في إسطنبول وعموم تركيا، فقد حرص السلاطين على تطعيمه بالطرز الأوروبي في مرحلة شهدت انبهاراً من رجل أوروبا المريض بعموم الحضارة الغربية.
 

تعرضت الامبراطورية العظيمة التي حكمت عشرات الدول التي نعرفها اليوم، للكثير من التحديات والمؤامرات في القرن الأخير من حكمها.. ومما فاقم أزمتها، أنها أرهقت موازنتها الهزيلة ببناء قصر على الطرز الغربي، تحدّت به أوروبا بحيازة أكبر قطعة سجاد حريرية، وأكبر ثرية كريستالية! كما أقرضت غرماءها الغربيين ما قيمته اليوم عشرات ملايين الدولارات حين تعرضوا للكوارث الطبيعية، كنوع أيضاً من ادّعاء القوة وانكار المرض.
 

إسطنبول، فكانت عاصمة ارتبطت عضوياً بالحضارة العثمانية، لكنّ هذه العاصمة خلعت، في زمن ما، ثوبها الحضاري، وسعت لإرضاء الغريم على حساب أبنائها.. حينها بدأت الحضارة العثمانية بالتفكك.

كانت السلطنة إذن تحارب على عدة جبهات ضد مؤامرات وأطماع الشرق والغرب على تركتها المغرية، لكنها في الوقت نفسه ربّت وسيلة دفاع عن النفس تمثلت في ادّعاء القوة، وتمثيل الرفاهية عبر بناء القصور والافراط في مظاهر الأبَّهة والاستعراض.. جانب العثمانيون الصوابَ حين ركزوا على مظاهر القوة عوضاً عن جوهرها، وحين عاش المتنفذون في ترف وثراء بينما تُرك العساكر الذين يصدّون هجمات الطامعين جوعى وعراة.. أدار بعض السلاطين الظهر لشعوبهم وعساكرهم فجاء الخطر من داخل الحدود وعلى يد العساكر.
 

على مرّ التاريخ، هناك عواصم تبني الحضارات وتخلّدها.. وهناك عواصم تبنيها الحضارات وتُعلي من ذكرها.. أما إسطنبول، فكانت عاصمة ارتبطت عضوياً بالحضارة العثمانية، وشيّدتها تضحيات العثمانيين من أتراك وألبان وعرب وقوقازيين.. لكنّ هذه العاصمة خلعت، في زمن ما، ثوبها الحضاري، واختارت مظهر القوة لا جوهر القوة، وسعت لإرضاء الغريم على حساب أبنائها.. حينها بدأت الحضارة العثمانية بالتفكك، ولم تُفلح محاولات الإصلاحيين والمجدّدين، في تلك اللحظة بدأت السلطنة بالسقوط، وسُحب امتياز العاصمة من إسطنبول، وبرزت أنقرة مركزاً جديداً لجمهورية جديدة.
 

وإن كانت السلطنة قد انهارت فإن إسطنبول بقيت مدينة أكبر من الانهيار أو التحلل.. ذهب العثمانيون، لكنها بقيت شاهداً ومعجزةً تحدثنا عن درس "دولما بهشته" ليكون رسالة لكل العواصم وكل السلاطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.