شعار قسم مدونات

فقراء ما قبل الكاميرا

مدونات، فقر

منشور على صفحة مؤسسة إغاثية به طفلان إفريقيان؛ أحدهما: رث الثياب، والآخر: لا يلبس إلا ما يستر عورته؛ بيديهما لوحة صغيرة عليها عبارات الثناء والشكر لمتبرع أوصل إليهم تبرعًا ماديًّا عن طريق المؤسسة الناشرة. قد يرى أحدُنا ذلك المنشور ويستحسنه من باب حرص تلك المؤسسة على كسب ثقة جمهورها، بالإضافة إلى جود المتبرع وسخائه وعدم نسيانه إخوانه المسلمين في البلدان الفقيرة.

تفكيرك ورؤيتك لهذا المنشور من زاوية الفقير؛ قد يعكس لك شعورك الأول ويصيبك بالامتعاض! ولكن للحظات؛ تخيلت نفسي وأخي مكان هذين الطفلين الإفريقيين وقدر الله أن نكون فقراء نتلقى تبرعًا من جهة ما، ومشروط علينا أن يصورونا بتلك الهيئة المذلة! كيف لو كبرنا أنا وأخي ورأينا تلك الصورة في أرشيف المؤسسة؟! أو كيف وإن ابتكرت المؤسسة وسيلة تسويق جديدة ووضعوا صورتنا -أنا وأخي- على حقائب المؤسسة وأجنداتها ولوحاتها التسويقية في الشوارع؟! لم أتحمل كل هذه التخيلات التي يأبى أي إنسان أن يكون بداخلها! وتذكرت عبارة نيلسون مانديلا: "ليس حرًّا من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر بإهانة".

على العاملين في المجال الخيري والإغاثي؛ التوقف عن الترويج لأنشطتهم والتسويق لحملاتهم بنشر صور المحتاجين، والتوقف عن انتهاك حق المحتاج بفضحه على وسائل التواصل والمواقع

مع انطلاق ثورة وسائل التواصل الاجتماعي؛ شرعت كل مؤسسات العمل الإنساني بتوثيق مجهوداتها الإغاثية، واتخذت وسائل عدة في التسويق لذلك؛ ولذلك أثر كبير في كسب رضا جمهورها وحفظ سمعتها وريادتها وسط المؤسسات الأخرى، ولكن يجب إحاطة الإنسانية من جميع جوانبها، ومراعاة الجانب النفسي للمستحقين قبل الجانب المادي، لما يترتب عليها أضرار نفسية بالغة تؤثر على المستحق طيلة حياته!

وهذا يدخل تحت النفي الرباني الذي أمر الله -عز وجل- في القرآن باجتنابه؛ فقال: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"، وقال في موضع آخر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىٰ"؛ والأذى -كما جاء في تفسير ابن كثير- هو: (لا يفعلون مع مَن أحسنوا إليه مكروهًا يحبطون به ما سلف من الإحسان)، كما جاء أمر رباني صريح -في سورة البقرة- وكأنه يقصد تلك الظاهرة؛ فقال عز وجل: "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى"، وقد قال الطبري -رحمه الله- في تفسيره: "قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم، وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته؛ خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه (يتبعها أذى)؛ يعني: يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها".

وبعض المؤسسات تبرر تلك الوسيلة بأنهم استأذنوا المستحقين في التصوير ولم يقدموا على تلك الوسيلة إلا بإذنهم! ولنفترض أن ذلك التبرير تبريرٌ مقبولٌ؛ فهناك جوانب خفية لم تخطر على بال المستحق وقت التوثيق؛ وهي أن تلك المادة الموثقة -التي هو فيها- سوف يشاهدها مئات الآلاف من البشر على مواقع التواصل الخاصة بالمؤسسة، ومن الممكن أن تستغل من مؤسسة أخرى للدعايا للغرض نفسه! أيضًا من الممكن أن ذلك المستحق محتاج لتلك المساعدة بأي شكل للدرجة التي يرضى بأي طلب يطلبه المانح منه، سواء أكان تصويرًا أم أي خدمات أخرى؛ فيرضى وهو جاهل بعواقب تصويره هو أو تصوير أولاده! فتلك الصور إما أُخِذَت بسيف الحياء وإما بالغرر! كما أن تعويد المستحقين الراضين بتلك الفضيحة على ذلك السلوك ينزع ماء وجوههم نزعًا، ويصير التبجح والظهور في أي صورة تطلب منه مقابل وجبة أو مساعدة مالية شيئًا طبيعيًّا، وذلك ما لا نرضاه لهم أيضًا.

فقراء ما قبل اختراع الكاميرا نجوا من تلك المفضحة التي فتكت بفقراء ما بعد الاختراع! هؤلاء الفقراء كانت تنتهي دورة مساعدتهم بتسليمهم ما يحتاجون والانصراف عنهم دون توثيق أو تصوير، لم يجدوا من يسوِّق صورهم على حقائب أو لوحات أو تصميمات لحملات إغاثية! لم يجدوا من يضع صورهم على منشورات الرضا بالمقسوم، والدعوة إلى التفاؤل الصباحي! فقراء ما قبل الكاميرا لم يطلب منهم أن يقفوا وبأيديهم لوحات مكتوب عليها عبارات الثناء والشكر للمحسنين داعين لهم بالخلف والبركة.

من الممكن أن تنتهج تلك المؤسسات عشرات الوسائل الأخرى لتوثيق تلك المساعدات، ولطمأنة جمهور محسنيها بشكل ألطف، ولا يفضح ذلك المستحق الذي ما ارتكب ذنبًا، ولكن نصيبه من الدنيا لم يكن واسعًا! من الممكن أن تصور المؤسسة البئر المحفور الذي تبرعت به المحسنة، أو دور الأيتام أو بيوت الفقراء التي شيدها المتبرع دون ظهورهم بشكل يجرحهم أو يؤذيهم فيما بعد، من الممكن أيضًا تصوير المستحقين من زاوية بعيدة لا تظهر تفاصيل أحدهم بحيث نجمع بين التوثيق والستر للمستحق، فالأصل أن تنمي المؤسسات الإغاثية -لا سيما الإسلامية- ثقافة التكافل بحفظ ماء وجه المحتاج، وأن نعزز قيمة كتمان الصدقة كما حثنا الرسول في الحديث بألا تعلم شمالنا ما أنفقت يميننا، وكما قال الله في كتابه العزيز: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".

فعلى العاملين في المجال الخيري والإغاثي؛ التوقف عن الترويج لأنشطتهم والتسويق لحملاتهم بنشر صور المحتاجين، والتوقف عن انتهاك حق المحتاج بفضحه على وسائل التواصل والمواقع، وعليهم أن يبادروا بنشر ثقافة الستر على المحتاج، وأننا كلنا معرضون للفقر والحاجة، وجميعنا لا يرضى ذلك، وعليهم تطبيق المبادئ الإنسانية بكل جوانبها وعدم اجتزائها، فكما كان احتياجه المادي دافع لكم، يجب أن يراعى أيضًا احتياجه النفسي؛ فلا نطفئ نار جوعه ونضرم أخرى في كرامته!

وفي بعض الحالات قد يكون ظهور المستحق للمساعدة ضروري ولا مناص من ظهوره أمام الكاميرا؛ لنقل ما يحدث على الأرض بشكل مفصل ولصعوبة نقل ما يحدث عبر شخص آخر، من باب أن الثكلى ليست كالمستأجرة؛ وذلك مثل ما يحدث في الدول التي بها أزمة اضطهاد أو نكبة يريد المحتاج نفسه توصيل صوته لإخوانه؛ فهذه الحالة ليس بها من العيب شيء، وإن كان من الأفضل تغطية الوجه أو ظهوره بشكل لا يظهر هويته؛ خوفًا على أمنه ومشاعره بعد ذلك إذا فرَّج الله كربتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.