شعار قسم مدونات

شيء من الخوف

blogs - الخوف
"بشيء من الخوف، والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"… تُرى كيف يشعر المرء منا أنه جائع؟ التواء في أمعاء البطن الخاوية ينبؤك، متى يجوع الإنسان؟! بعد عشر ساعات متواصلة من جوف لا تمرق إليه مضغة طعام مثلا، كيف ندرك نقص الأموال؟ الأنفس؟ الثمرات؟ عدها ستجدها ناقصة عن ذي قبل، ضاق كسبك، مات أحد أهلك، قلت ثمارك!

الآن، متى إذَنْ نشعر بالخوف؟ ما هي علاماته؟ كيف تعرف أنك مقبل عليه؟ أو أنه بالأحرى مقبل عليك؟ ما هذا الشبح وسط البلاءات المنظورة… في طفولتنا كان الخوف طفلا، كأي طفل يلعب بالأشياء الصغيرة، كان الخوف يخاف أيضا من الأشياء الصغيرة في هذا العالم، تأنيب أب أو عقاب أم، تأديب معلم أو زجر جار، أو خيالات لدمى مشوهة صغيرة وسط ظلام الغرفة قبل النوم.

في صبانا كانت كوة العالم أصبحت في أوسع مدى لها، الأحلام كلها أمامنا، كثمار يانعة نضجت لتوها لم نقطف منها واحدة بعد، كحور كاعبة تجهزن من فورهن لم يمسسهن بشر بعد، لم نكن نخاف أبدا، لا شيء معنا قد ملكناه فنخاف عليه، ولا شيء أمامنا قد خبرناه فنخاف منه… ربما كن الخوف هنا هو فقط درع فارس لمعركة قادمة، يُرى غبار خيلها من بعيد، خوف سلك قلوب كل من جابه ظلما أو صارع بطشا من قبل، خوف صغير أو كبير مغلف بطبقات لا نهائية من الشجاعة والإقدام والبطولة والتضحية وأعوام السجن التي لا تثني أحدا عن فكرة، وسياط التعذيب التي لا تدمي إلا ظهور المناضلين فتزكي سراج أفئدتهم، وأعواد المشانق التي لا تقتقل إلا أجساد الرجال فتحيي بيارق أفكارهم، كان الخوف ممزوجا بكل هذا وأكثر.

بعضنا ربما اكتشف للمرة الأولى أن عشرات الأنواع من الخوف كانت حوله في كل خطوة، حتى تلك الخطوة الأولى التي كان يخطوها بثقة مفرطة.

في فتوتنا، بدأ الخوف الحقيقي يدب للمرة الأولى في دروبنا، خوف لم نحسب له كل الحسابات القديمة، لم نُقم له قلاع البطولة والفداء والصبر والاستبسال، خوف جاءنا كصورته الحقيقية، من بين أيدينا ومن تحت أرجلنا.

في وسط المعركة التي لم نخف فيها يوما من سيف العدو وسوطه؛ نشعر فجأة بنصل يوخز في الظهر مسائلا على حين غرة، ترى هل أنت فى المعركة الصحيحة؟ في وسط المعركة التي لم تنل منا رماحها رهقا يلتف لنا عن أيماننا تارة أخرى: هل يمكن للمعارك أن تستمر للأبد؟ ولا تحصل على جنتك التي وُعدتها ها هنا، على تلك الأرض بعد أن تقتل كل الوحوش؟ يختفي مرة أخرى مراوغا متحرفا لقتالنا من اليسار، تلك المرة بطعنة أكثر نفاذا، ماذا لو خسرنا، هل تعرف إلى أين تذهب؟ وكيف تدخل معركة أخرى!

في فتوتنا كان الخوف مباغتا، صوت يسأل من بعيد، فيوقع منا آحادنا أحيانا، لكنه وسط ضجيج المعركة لا يُرى، وبين سنابك الخيل لا يزول… في شبابنا خبرنا أنواعا أكثر من الخوف، خوف على قليل تكور في أيدينا، قروش قليلة نخاف أن تصبح أقل، سلمة واحدة أو سلمتين في هيكل وظيفي نخاف أن تكون الثالثة منه هابطة لا صاعدة، حلقات فضية وذهبية تتوسد على أصابعنا، نخاف أن تُنزع أو تضيع، عشرة نفر ملتفين حولنا نخاف أن يتفرقوا عنا أو نُمل، أصبحنا نخاف على ما ملكناه.

في شبابنا خبرنا أنواعا أوفر من الخوف، كان أكثرها من بين أضلعنا، من سؤالات لا تنتهي، وأضغاث أحلام لا تنفك عنا، من الثمار الناضجة التي أتيناها فوجدنا حمارها أصباغا، من أجساد العذارى الفاتنة التي لمسناها فذاب شمع العرائس بين أنامل أصابعنا الحرّا. أصبحنا نخاف مما خبرناه.

الخوف من أن نحب فيصد المحبوب، من أن نكمل طريق الحب فيضيع الحبيب، من أن نسأل كما سأل فلان فبدّل وتحول، من ألا نسأل كما لا يسأل فلان وعلان فنجمد ونيبس

بعضنا ربما اكتشف للمرة الأولى أن عشرات الأنواع من الخوف كانت حوله في كل خطوة، حتى تلك الخطوة الأولى التي كان يخطوها بثقة مفرطة، كان بجواره قرين لم يخطها أصلا، ربما لو عاد لوجده مكانه حتى اليوم، ربما لو رآه مكانه حتى اليوم لتمنى أن يكون مثله قد منحه خوفُه مأمَنه.

الخوف اليوم يأتينا على كل الألوان والأشكال يا صاحبي، حتى القضبان والسياط والمشانق أصبحنا منها في خوف، خوف أن نكون أسراها بلا عزاء أو معنى، أن نكون مختارين وقد قدر لنا ألا نختار فعمينا عن ذلك، أن نكون ضالين سُقنا إليها بغير هدى وسيعلق منا من قدر عليه أن يعلق فيها.

الخوف يأتينا اليوم من كل الدروب والسكك، خوف من أن نتكلم فنخطئ، من أن نكتب فتحترق أحفرنا من النور، من أن نحب فيصد المحبوب، من أن نكمل طريق الحب فيضيع الحبيب، من أن نسأل كما سأل فلان فبدّل وتحول، من ألا نسأل كما لا يسأل فلان وعلان فنجمد ونيبس، من أن نخاطر فنخسر، من أن نحجم فنندم، خوف من أن نربط ميثاقا مغلظا فينقطع يوما، من أن نأتي بأحد إلى هذا العالم فيلعننا يوما، من ألا نأتي بأحد إلى هذا العالم فنفنى يوما ما، نرى في كل ما حولنا شيئا من الخوف، ونسأل من هو مستحق وحده للخوف خفى الألطاف أن ينجنا مما نخاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.