شعار قسم مدونات

صرخةٌ من رحم طفلة

blogs - kid mother
لا تنسدل الكلمات على السطور بهذا الزخم إلا من فيض حزنٍ عميق، أو قهر يغلي في الضلوع، أو في حالاتٍ نادرة جداً، فرحٌ يملأ الأركان، لكني لن أثقل على السطور ولا على قلوبكم، وسأروي لكم هباتٍ اجتُثت من رحم الآهات، وسرَّاً يكمن في بريقِ عينيه الملونتين، لمع للمرّة الأولى في روحي قوّةً ورفضاً وتمرّداً وعصياناً وإعلان ثورة على الضعف والانهزامية. بريقٌ وابتسامة بريئة فجّرت طاقة في داخلي، ومزّقت غشاوة على بصيرتي، وكسرت قيد الأيام.. أو ما يسمّونه الاستسلام..

عندما أطلق صرخته الأولى معلناً قدومه للحياة، كنت أجهل الحياة، وأجهل كيف أستقبله، وأنا نفسي لم أخرج من بين دفتيّ الطفولة، ومن جلباب زوجٍ صعب المراس وفظّ الطباع وغليظ اللسان لم أملك المقومات الكافية لتحمّله، فوجدتني في غرفتي وعلى سريري من جديد، أرمق شجرة التوت وأوراقها تتدلّى من النافذة، لكنني هذه المرة أحمل في أحشائي طفلاً، طفلاً أكملت بصحبته 9 شهورٍ كاملة، واليوم الأول في الوجود وعلى مهده الأزرق، واليوم الثاني كذلك، وفي اليوم الثالث تركوا لي المهد … وأخذوه.

وضعت في جسدي النحيل حينها كلّ ما في الوجود من قوّة يمكن للعقل أن يتخيلها، صبرت على رفض كلّ من حولي لكونه في حياتي عائقاً، بينما وجدته الحياة.

كلّا.. لا تنتظروا مني ما تبقى من تفاصيل الحكاية، فكلّ ما في جعبتي من كلمات أخفقت في سردِها، لكنني سأضع عن كاهلكم فصولها المؤلمة، التي شهدت فيها عهدي الأول مع التمرّد، والعصيان، أو كما يسمّونها الوقاحة، حتى نجحت في استرداده بعد 5 شهور قضاها بعيداً عني، حين ملأت عينيّ بملامحه، لم أصدق، ولن تصدقوا مثلي كم كان جميلاً، أجمل بأضعافٍ من صورته التي لازمت مخيّلتي طوال تلك المدّة، وأكثر بكثير مما أستحقّ، لحظات حملت في طيّاتها رسائل جعلتني أكبر فجأة وأتضخّم وأعلو على إرادتهم. وضعت في جسدي النحيل حينها كلّ ما في الوجود من قوّة يمكن للعقل أن يتخيلها، صبرت على رفض كلّ من حولي لكونه في حياتي عائقاً، بينما وجدته الحياة.

منذ استقبلته أيقنت أنني لم أعد طفلة، وأنّ أمامي درباً ممتدّاً من اقتناص الفرص ومواجهة التحديات، وكمّا هائلاً من الرفض، وجهداً مضاعفاً من الخروج عن قوالب رسمها لي الآخرون وإرادة كبيرة في السير عكس التيّار، اليوم وقد قطعت بصحبته 15 عاماً، وأصبح يضاهيني طولاً، ورغم أنني ألقيت عليه محبة مني ورعاية وحناناً واهتماماً، إلا أنني لم أشعر نحوه بالأمومة بقدر شعوري أنه صاحبي في السفر ورفيقي في دروب الحياة، أتعلم منه ويتعلم مني، وفي كلّ يوم أدرك أنني لم أمنحه بقدرِ ما منحني، وأنني لم أكن لأملك قوة وسلاماً ورضا في داخلي ولأقطع أشواطاً في تحقيق أحلامٍ كانت تراودني في الصغر لولا ذلك المهد الأزرق.. الفارغ. 

قد أكون قد نجوت من أمواج الزواج المبكّر المتلاطمة بأعجوبة، ولم أكن لأتحدّث عن تجربة شخصيّة قبل أن أنفض عني آثارها الوخيمة وأحتفظ في داخلي بالدروس المستفادة منها، لكن هل تملك نسبة تتراوح ما بين 8 إلى 20% من القاصرات المتزوجات في بلدان كالأردن وسوريا ومصر وفلسطين -وفقاً لتقارير اليونيسيف- الخروج من تجارب مؤلمة بكامل قواهن النفسية والجسدية والعقلية أو يحصلن على الأقل على حقوقهن كاملة أو السلامة من عواقب وخيمة تصل إلى 8 حالات وفاة يومياً لفتيات قاصرات بسبب الزواج المبكر في دولة مثل اليمن؟ سأترك الإجابة للضمائر والإنسانية، والسلامُ على طفلاتٍ يحملن ويرضعن أطفالاً، سلاماً وقولاً رحيماً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.