شعار قسم مدونات

أجملُ عرضٍ شاهدته في حياتي

blogs - تربية الابناء

يقولُ شارلي شابلن، أشهر كوميديّ في تاريخ السّينما: عندما كنتُ صغيراً، ذهبتُ برفقة أبي لمشاهدة عرضٍ في السّيرك، وقفنا في صفّ طويل لقطع التذاكر، وكان أمامنا عائلة مكوّنة من ستة أولاد والأم والأب، وكان الفقر بادياً عليهم، ملابسهم قديمة لكنها نظيفة، وكان الأولاد فرحين جداً وهم يتحدّثون عن السيرك، وبعد أن جاء دورهم، تقدّم الأبُ إلى شبّاك التذاكر، وسأل عن سعر البطاقة، فلما أخبره عامل شبّاك التذاكر عن سعرها، تلعثم الأب، وأخذ يهمس لزوجته، وعلامات الإحراج بادية على وجهه!

فرأيتُ أبي قد أخرج من جيبه عشرين دولاراً، ورماها على الأرض، ثم انحنى والتقتها، ووضع يده على كتف الرجل وقال له: لقد سقطتْ نقودك! نظر الرّجلُ إلى أبي، وقال له والدموع في عينيه: شكراً يا سيّدي! وبعد أن دخلوا، سحبني أبي من يدي، وتراجعنا من الطابور، لأنه لم يكن يملك غير العشرين دولار التي أعطاها للرجل! ومنذ ذلك اليوم وأنا فخورٌ بأبي، كان ذلك الموقف أجمل عرضٍ شاهدته في حياتي، أجمل بكثير حتى من عرض السيرك الذي لم أشاهده!

ورقة تلقيها في سلة المهملات أمام ابنك هي أبلغ من ألف خطبة عن النّظافة! وصدقة تضعها في يد فقير أمام ابنتك هي أبلغ من ألف خطبة عن الصّدقة! لا يمكنك أن تُقنع ابنك بمضار التّدخين وأنت تنفث دخان سيجارتك في وجهه!

لطالما آمنتُ أنّ التربية بالقدوة لا بالتنظير، ولستُ أُقللُ من شأن النّصيحة والكلام، فأحياناً قصة نلقيها على مسامع الأولاد فيها من الدروس الكثير، وحديث نبويّ شريف نشرحه لهم نزيل من نفوسهم مفاهيم ونزرع أخرى، فلا بد من الكلام أحياناً.. لا بدّ أن يفهم الأولاد ما الخطأ الذي ارتكبوه … قوانين البيت، آداب الطعام، آداب الطريق، كل هذا لا غنى عن الكلام فيه، ولكن تبقى المواقف أبلغ أثراً، وأصدق من كلّ الكلام!

ورقة تلقيها في سلة المهملات أمام ابنك هي أبلغ من ألف خطبة عن النّظافة! وصدقة تضعها في يد فقير أمام ابنتك هي أبلغ من ألف خطبة عن الصّدقة! لا يمكنك أن تُقنع ابنك بمضار التّدخين وأنت تنفث دخان سيجارتك في وجهه! ولا يمكنكِ أن تقنعي ابنتكِ بقدسيّة الحجاب ما دام الحجاب في تصرفاتك لا يعدو كونه غطاء على الرأس! أنتَ عندما تصحب ابنك للمسجد فإنك تعلّمه أهميّة صلاة الجماعة حتى لو لم تعقد له في البيت جلسة للحديث عن أهميّة الموضوع! وأنتِ حين لا ترفعين صوتكِ في وجه زوجكِ أمام ابنتكِ فإنك تعلمينها درساً للمستقبل وإن لم تقيمي لها محاضرة عن حُسن التّبعل! طاعتكَ لوالديك هي درس في البرّ لأولادك! وزيارتكِ لأختكِ هي درس في صلة الرّحم لابنتك!

رسَمَ طفلٌ رسماً لبيته المستقبلي، وعرضها على أبيه، أُعجب الأب برسمة ابنه، وأخذ يسأله: ما هذه الغرفة الواسعة؟ فقال الصّبي: هنا ستكون غرفة الجلوس! قال الأبُ: وما هذا المكان في الأسفل؟ أجابه: مطبخ كبير حتى لا تتذمر زوجتي من مطبخنا الصغير كما تفعل أمي! عندها قال الأب: وما هذه الغرفة الصغيرة عند مدخل البيت الخارجي؟ فقال : هذه ستكون لك، ألا ترى أنها تشبه غرفة جدي التي وضعتها فيه؟! كلّ شيءٍ نقوم به هو درس للأولاد من حيث لا ندري ! فكُنْ لوالديك الابن الذي تتمنى أن يكون لك وكوني لحماتك الكنّة التي تحبين أن تكون لكِ. الذي يزرع الحنظل لا يجني العنب!

في أوّل حياتي المهنيّة في التدريس، درّستُ طالباً في السّادس الابتدائيّ، اسمه حسين، كان ذكيّاً ومتفوقاً، ولم يسبق لي أن التقيتُ بأحد من أهله إلا بعد امتحانات نصف السّنة، والسببُ أن حسين أشغله سؤال لم يعرف إجابته، فبقي حائراً فيه إلى أن انقضى الوقت، ولما أرادت المعلمة التي تراقب عليه أخذ الورقة منه، رفض أن يعطيها ورقته وقال لها : لم أنتهِ بعد ! فقالت له: ولكن الوقت انتهى. فقال لها: سأكمل إجاباتي رغماً عنكِ!

هنا سحبت المعلمة الورقة منه، وظننا أنّ الموقف انتهى.. وفي صبيحة اليوم التالي حضرت أمه إلى المدرسة، وطلبتْ من المدير أن يجمع لها أساتذته، فلما اجتمعنا قالت وحسين بقربها: إنّ ابني هذا قليل أدب، والعلم دون أخلاق هو الذي أفسد العالم، الذين صنعوا القنابل الذّرية كانوا علماء بلا أخلاق، ولا أريد لابني أن يصبح مثلهم، إذا ترك المدرسة الأن كان شرّه على نفسه، لهذا قررتُ أن أجعله يجلس في البيت! أخذنا نُهوّن لها الأمر، وأنّ هذا شيء قابل للحدوث.. وحسين يبكي دون أن يلفظ بكلمة، وكانت أم حسين أعظم أم، وكان ذلك أجمل عرض شاهدته في حياتي، تخيلوا لو أنّ الأم حضرت إلى المدرسة لترفع صوتها على المعلمة بحجة أن ابنها مجتهد وكان بإمكانه حلّ الامتحان، لقد ربحت هذه الأم ابنها، وأعطته درساً للعمر، وأنا على يقين أنها كانت تفقه في التربية أكثر منا نحن الذين درسنا في كلية التربية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.