شعار قسم مدونات

صندوق الحب (2)

blogs رواية صندوق الحب

يعلم عدد من متابعي مدونات الجزيرة، أنني أدعى وضاح اليمن، وقد بدأت الأسبوع الماضي سرد أطوار حكايتي الغريبة، ولأن القصة أطول من أن تحتملها تدوينة واحدة، فقد ارتأيت تقسيمها إلى أجزاء. لمن لم يتابع الجزء الأول، أنصحه بالعودة إلى هذه التدوينة: صندوق الحب (1). أما إن كنت قليل الصبر عزيزي القارئ (وقد أخبرني عبد المجيد سباطة بأنكم تعيشون في عصر عجيب أسميتموه عصر السرعة) فلا مانع عندي من تلخيص ما سبق في أسطر قليلة:

 

اسمي وضّاح اليمن، شاعر يمني عاصر الحقبة الأموية، كنت مشهورا بوسامتي الشديدة، وقعت في غرام حسناء يمنية تدعى روضة، لكن رفض أهلها لهذه العلاقة جر على كلينا الويلات، فكنت قاب قوسين أو أدنى من فقدان حياتي على يد إخوتها، فيما تم تزويجها هي من عجوز مجذوم تسبب في إصابتها بالمرض اللعين ورميها في وادي المجذومين لتلفظ أنفاسها الأخيرة هناك.

 

كانت الصدمة سببا مباشرا في إصابتي بالجنون وتوقفي مجبرا عن نظم الشعر، فلم يجد أهلي وبعض معارفي بُدَّاً من إرسالي إلى البقاع المقدسة في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج والبحث عن علاج روحي لمأساتي، واعتقد الجميع بأن حكايتي انتهت عند هذا الحد، لكنني أنهيت التدوينة الأولى بقولي إن وصولي إلى مكة لم يكن نهاية القصة، بل بدايتها الحقيقية.

 

كان السبب الحقيقي لمقدم أم البنين إلى مكة هو أن يتغزل بها الشعراء، على عادة نساء زمانها من أشراف قريش، كما تغزلوا بأخت زوجها فاطمة بنت عبد الملك.

تزامن وصولي إلى مكة واستقراري بها مع وصول موكب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، لأداء فريضة الحج، وهي المنتسبة لأشراف قريش والمشهورة بجمالها الذي تناقلت تفاصيله ألسن الجميع. ولكن دعوني أعالج الأمور من زاوية أخرى أكثر وضوحا.

 

كان السبب الحقيقي لمقدم أم البنين إلى مكة هو أن يتغزل بها الشعراء، على عادة نساء زمانها من أشراف قريش، كما تغزلوا بأخت زوجها فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز وكما تغزلوا بسكينة بنت الحسين وكما تغزلوا ببنت معاوية من قبل وكما كانوا يتغزلون بكل شريفة وجميلة وردت مكة.

 

إنها رغبة محمومة من زوجة الخليفة الحسناء في الدخول إلى تاريخ الشعر العربي من خلال أبيات أو ربما قصيدة تتغنى بجمالها وتخلدها في وجدان الأدب العربي إلى الأبد.

 

لهو وهزل، لم تكن تعلم لا هي ولا أنا بأنه سينقلب إلى جد في النهاية.. بدأت أم البنين محاولاتها تلك مع الشاعر "كثير عزة"، المشهور بعشقه لامرأة تدعى عزة ولحاقه بها إلى مصر بعدما انتقلت إلى هناك رفقة زوجها، كما لو أن تتبع أثر المحبوب لوحده كان كافيا بالنسبة له.

 

سأطلعكم على سر أرجو أن يبقى بيننا، كل ما قاله كثير عن حبه لعزة ولحاقه بها إلى مصر محض خيال، فقد هربت منه عزة ولم تبادله الحب إطلاقا، هو المعروف بدمامته وقبح وجهه وقصر قامته وسخرية الناس من شكله، كل ما هنالك أن أم البنين أرادته هو لما عرف عن شعره من جزالة في اللفظ وقوة في المعنى، فحتى عندما أتت به الجارية غاضرة إلى مجلس زوجة الخليفة، نفرت من قبحه ورفضت أن تزيح الخمار عن وجهها.

 

على أية حال، رفض كثير هو الآخر مجاراة أم البنين في رغبتها، فقد نسيت إخباركم بأن الخليفة الوليد بن عبد الملك ربما تفطن لما تفكر فيه زوجته اللعوب، فأصدر أوامره القاطعة متوعدا الشعراء جميعا إن ذكرها أحد منهم، أو ذكر أحدا ممن تبعها بأقصى العقوبات، فكان من الطبيعي أن ترتعد فرائص كثير ويخشى على حياته من بطش الخليفة إن هو نظم بيتين أو أكثر يتغزل فيهما بأم البنين.

 

كان طبيعيا إذن أن تنتفض المرأة لكرامتها وتطرد كثير من مجلسها، شاعرة في قرارة نفسها بأن مهمتها قد فشلت، فقررت الانتقال إلى ما تسمونه أنتم في عصركم بالخطة "ب"، رغم يقينها من خطورة ما هي مقدمة عليه.

 

علمت أم البنين أنني أنا، وضاح اليمن، أجمل رجال العرب كما يقولون، وصاحب قصة العشق الممنوع الشهيرة، موجود في مكة، فقررت تجربة حظها معي، رغم ترددها الكبير في البداية، لعلمها بأن الاقتراب مني محفوف بمخاطر جمة، مخاطر بعيدة كل البعد عن اللهو الذي قررته هي في البداية. لكن، عندما تمتزج غواية الشعر بدهاء الأنثى فاقرأ على المنطق السلام..

 

الله يعلم لو أردتُ زيادةً *** في حُبِّ روضةَ ما وجدتُ مزيدا

رُهبانُ مَدْيَنَ والذين عهدتهم *** يبكون من حذر العذاب قعودا

لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامها *** خرُّوا لروضة رُكَّعاً وسجودا

تنكرت أم البنين في ثياب الجواري، ورافقت جاريتها غاضرة، وتجولت في أزقة مكة سافرة، على عادة الجواري في تلك الأيام، باحثة عني. وتم اللقاء.. كنت نحيلا كالشبح، نظراتي زائغة، شفتاي متشققتان من العطش، كل تصرفاتي تدل على الجنون، فمدت لي أم البنين يدها بإبريق ماء وهي تسألني عن عطشي. هنا رفعت عيني إلى مخاطبتي، فوجدتني أمام وجه لم أقابل مثل جماله الأخاذ ورغبته المتوقدة قط. هممت بالابتعاد عنها، لكنها أوقفتني بأناملها اللامعة التي أطبقت على زندي وهي تقول: "وضاح…أنا روض!"

 

شعرت بأن الأرض مادت بي، وأنا أسمع اسما خيل إلي بين اليقظة والحلم، التعقل والجنون، أنني لن أسمع رنينه في أذني مرة أخرى.. هل عادت روضة إلى الحياة أم أن طيفها هو الذي يتراءى لي؟ لم أشعر بنفسي إلا وأنا أتبع المرأتين إلى حيث تقيمان، فجلست بين يدي تلك الفاتنة، وشربت حتى ارتويت، وأنا عاجز عن التمييز بين خيال يصر على إقناعي بأن روضة عادت إلى الحياة لتنقذني من جنون التيه، وواقع يصور لي وصولي إلى قمة جبل العشق مع امرأة جديدة لا أعلم أي قدر ذاك الذي ألقى بها في طريقي.

 

كل ما أذكره هو أن عقدة إلهامي قد انحلت بين يدي هذه المرأة بعد صمت طويل، فرويت ثلاثة أبيات:

 

الله يعلم لو أردتُ زيادةً *** في حُبِّ روضةَ ما وجدتُ مزيدا

رُهبانُ مَدْيَنَ والذين عهدتهم *** يبكون من حذر العذاب قعودا

لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامها *** خرُّوا لروضة رُكَّعاً وسجودا

 

وانفجر شلال الشعر الذي أسكر أم البنين، هي التي بدأت مغامرتها مع الشعراء لهوا، فوقعت أسيرة شعور لم تعرف مثله من قبله، كيف لا وهي لم تعرف عن نفسها سوى أنها الزوجة الأولى للخليفة ضمن جيش من المحظيات والجواري، لا أقل ولا أكثر، ولا مكان لمشاعر الحب الصادقة والجياشة في قاموسها. ولكن، أكان الشعر لوحده كافيا ليقلب حياة كلينا رأسا على عقب؟

 

طبيعي جدا أن أرى ملامح الاستغراب والدهشة على وجوهكم، لكنكم تجهلون أية مكانة احتلها الشعر في زماننا، عندما كان سحر الكلمة لوحده كفيلا بصنع الأعاجيب.. ضحكت أم البنين وبكت، اقتربت وابتعدت، أسكرها شعري بعدما شربت كلماته وأنا بين يديها، طارت بي وطرت بها، وعوض أن أكتب لها شعرا صارت هي القصيدة وقد دخلت مرغمة في قافية سحر العشق.

 

ولأن المرأة العاشقة قادرة على فعل المستحيل، فقد كان قرار أم البنين حاسما لا رجعة فيه: "ستلحق بي إلى قصر الخلافة في دمشق، وليكن بعدها ما يكون.." هل وافَقتُها على طلبها المجنون هذا أم لا؟ وما علاقة كل هذه التفاصيل بحديثي في البداية عن صندوق الحب؟

 

نتابع القصة في الأسبوع المقبل، فكونوا في الموعد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.