شعار قسم مدونات

بين ثنايا تجاعيدهم

blogs-elders
لم أستطع أن أحدد شعوري وأنا أصعد درج ذلك المكان، كانت خطواتي تجرّني كي أصل بسرعة وأدخل إلى الدّاخل لأكتشف تفاصيل هذا العالم الغامض الذي كثيرًا ما سمعت عنه أغرب القصص وأشدّها حزنًا وفتكًا بالمشاعر، ذاك العالم المدعوّ بدار المسّنين. وجدتُ نفسي أقف على باب الدَّار وأُحدِّق في الصالة المقابلة لوجهي تماما، كانت صالة كبيرة محاطة بعدد كبير من الكراسي، بعضها فارغٌ وبعضها قد أُثْقل بأجساد تحوي في داخلها الكثير من الجروح التي قسا عليها الزّمن. 


تأمّلتهم قبل دخولي، رأيت منهم من ينظر إليّ مستبشرًا فرحًا بقدوم زائرة قد تكسر حواجز الملل التي يعيشونها كلّ يوم، وبعضهم نظر إليّ نظرة اللامبالاة ثمّ غضّ نظره عنّي بسرعة، وبعضهم كان غارقًا في عوالم تكمن داخل عقله، ربّما كان يناجي نفسه ويتذكّرها وهي شابّة تمرح وتلهو وتستبعد هذه النّهاية.

كيف لقلبها أن يظلّ مُحِبّا على الرغم من كلّ ما تعرّضت له، كيف لها أن تظلّ وفية لمشاعر سكنتها منذ زمن ولم تسمح لها بمغادرتها، ما أحنّ قلب الأمّ على أبنائها وما أقسى قلب الأمّ على نفسها!

لفتني منظر رجلٍ ملتصق بالنّافذة، كان محدّقا بها بطريقة غريبة، فكان أول من تحدثت إليه في الدَّار، سلّمت عليه وجلست بجواره فردّ السّلام بحفاوة بالغة ثم عاد ينظر إلى النافذة كشخص ينظر إلى مسلسله المفضّل ويخشى أن تفوته لقطة منه. حاولت أن أستدرجه ليتكلّم معي قائلة: الطّقس جميلٌ الْيَوْم، فردّ بابتسامة وتابع الصّمت. 

بدأت بالتّعريف عن نفسي علّه يعرّفني عن نفسه أيضًا، ظلّ صامتًا وأنا أنتظر، قطع صمته فجأة وأخبرني باسمه وعمره ودراسته ثم قال: أنا أنتظرهم، لحظات ويكونون هنا، سألته بسرعة عمّن يقصد فأجابني أنّه يقصد زوجته وأبناءه الثلاثة، ثم أردف قائلًا: أنتظرهم منذ خمس سنوات، لا بدّ أنهم سيصلون الآن. حاولت أن أُمسك انفعالاتي وعواطفي من الانفجار أمام هذا الرّجل فآثرتُ الردّ: إن شاء الله يا عمّ. 

ودّعته ونهضت لأسمع قصّة أخرى والألم يعتصر قلبي، كيف للحياة أن تدور ويصل هذا الرّجل إلى هذه المرحلة من الأسى، كيف لأمر واحدٍ أن يقلب حياة الإنسان بهذا الشّكل فيصبح مظلومًا حائرًا مكسورًا، ثمّ بكلّ طيبة بعد كل ما تعرّض له لا يفقد الأمل في من أحبّهم ظانًّا أنّ المشاعر وحدها من طرفه قد تكفيه ليجابه قسوتهم وخذلانهم، كم ظالمةٌ هي الدُّنْيَا مهما أنصَفت.

توجّهت بعد ذلك إلى امرأة جميلة جدًّا، فورًا تخيّلت شكل وجهها وهي شابّة لا بدّ أنّها كانت فائقة الجمال، تعرّفت عليها وروت لي قصّة مجيئها إلى الدَّار بسبب زوجة ابنها -الوحيد- التي اختارتها هي لابنها، ثمّ عبّرت لي عن ندمها بسبب هذا الخيار، تابعت حديثها بحبّ عن ابنها المهندس الذي رفع رأسها على حدّ قولها بين أبناء عمومته. تساءلت في نفسي، كيف لقلبها أن يظلّ مُحِبّا على الرغم من كلّ ما تعرّضت له، كيف لها أن تظلّ وفية لمشاعر سكنتها منذ زمن ولم تسمح لها بمغادرتها، ما أحنّ قلب الأمّ على أبنائها وما أقسى قلب الأمّ على نفسها!

أخبرني باسمه وعمره ودراسته ثم قال: أنا أنتظرهم، لحظات ويكونون هنا، سألته بسرعة عمّن يقصد فأجابني أنّه يقصد زوجته وأبناءه الثلاثة، ثم أردف قائلًا: أنتظرهم منذ خمس سنوات!

أنهيت زيارتي بعد سماعي لعشرات القصص وتجاذب الحديث مع المسنّين الذين رَووا لي بطولات شبابهم وحكاياهم بحماس ولهفة، كأنّهم ينتظرون أيّ عابرٍ يشاركهم الحِمْل. تأمّلت الحياة بعد عودتي، العالم غريب جدًّا، فمن كان يعتقد منهم أنّ الأمر سينتهي به هنا بين عشرات المسنّين الَّذِين يتألّمون في الْيَوْم الواحد ألف مرّة بصمت، من كان يظنّ منهم أنّ تجاعيد وجهه هذه ستكون شاهدًا على ظلم سيمرّ به ولا مغيث له ولا معين سوى الله تعالى.

تُرى، ما هو شعورهم وهم يستيقظون كلّ يوم يتأمّلون وجوه بعضهم فيفهمون انكساراتهم ويفضّلون الصّمت، ثمّ يعود كلّ واحد منهم كل ليلة إلى سريره يتأمل سقف الغرفة الذي يكون شاشته التي تعرض ذكرياته الماضية التي كانت سببًا في مجيئه إلى هنا! خفّف الله آلامهم وبارك في أعمارهم، وهدى من كان سببًا في أن يصلوا إلى ما قد وصلوا إليه. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.