شعار قسم مدونات

عن العلمانية (1)

blogs- العلمانية

(1)

قد لا يحبِّذ البعض استخدام كلمة "علمانية"، ويفضِّلون كلمة مثل "عقلانية"، وذلك لاعتبارات سياسية. فالعلمانية -كمفهوم نشأ في الغرب -قد يثير بالإضافة إلى الحفيظة الدينية، الحمية الحضارية الإسلامية، ونزعة الأصالة والاستقلال، والارتياب في كل ما هو قادم من الغرب. تلك الحضارة التي استعمرتنا في السابق وما تزال تمارس علينا، بسبب تفوقها الحضاري، أشكالا من الهيمنة والتأثير.

 

هناك تحفُّظٌ آخر على العلمانية أقلّ سياسويةً وأكثر موضوعيةً يرى أن العلمانية قد نشأت في سياق تاريخي واجتماعي مغاير، وأنها – ككل الأفكار والمفاهيم- لا تنفصل عن السياق الذي أوجدها، ولا يُمكن نقلها إلى سياق تاريخي مغاير ومختلف دون أن يكون ذلك إسقاطا متعسِّفاً. وهذا التحفُّظ الأخير على وجاهته، إلا أنه يعاني من إشكال افتراض أن "العلمانية" هي كلمة ذات دلالة على معنى محدد تماما، وأن كُل طرح لها يستلزم هذا المعنى بالضرورة، ويعمل على فرضه في سياق غير سياقه. وسنعود لهذه النقطة لاحقا، وهي تتعلق أساسا بالنظرة السكونية و (الأُسطورية) إلى اللُّغة، حيث تفترض أن هناك سلطة ما لضبط وتحديد معاني الكلمات، وأن الكلمات دائما تقول نفس الشيء.

 

وقبل أن يعترض أحدهم بأن السياق الذي نشأت فيه العلمانية وكذلك تطبيقها هو ما يحدد معناها دائما، أي أن هناك سلطة لتحديد معنى الكلمة هي الواقع التاريخي الذي نشأت ومُورست فيه، وبالتالي فإن كل استخدام للكلمة يشير إلى ذلك المعنى. أقول إن وجود من يطرح قضية العلمانية في سياق مختلف لوحده كافي لجعل دلالتها مختلفة أو على الأقل ليست بالضرورة متطابقة مع دلالتها في السياق الأول الذي نشأت فيه.

 

إننا معنيون بالعلمانية الآن كقضية مُهمة، لا لأن أحداً قد فرض علينا ذلك، أو لأن مفاهيم الحضارة الغربية قد غزتنا كما يروِّج البعض، ولكنها مهمة لأنها عبَّرت وتُعبِّر عن تطلُّعات الإنسان في أن يكون صانع مصيره بنفسه

لماذا؟  لأن الواقع الذي تشير اليه الكلمة هو واقعنا، فعندما نقول مثلا فصل الدين عن الدولة، فنحن لا نتكلم عن الكنيسة وإنما عن قوى سياسية موجودة في العالم الإسلامي تمارس السلطة باسم الدين. أي أن ضغط الواقع الذي أنتج مفهوم العلمانية في الغرب هو نفسه الذي يعمل على إعادة إنتاج العلمانية الآن في السياق الإسلامي، أعني الصراع السياسي والفكري والمعرفي.

 

(2)

صحيحٌ أنها ظهرت كمصطلح وكممارسة في الغرب، ولكننا معنيون بها الآن كقضية مُهمة، لا لأن أحداً قد فرض علينا ذلك، أو لأن مفاهيم الحضارة الغربية قد غزتنا كما يروِّج البعض، ولكنها مهمة لأنها عبَّرت وتُعبِّر عن تطلُّعات الإنسان في أن يكون صانع مصيره بنفسه، وهي تطلُّعات ليست مشروعة وحسب، وإنما تعكس الطبيعة الأصيلة للإنسان والتي لا تحتاج إلى تبرير. فأن يكون الإنسان سيد نفسه ومصيره، فهذه هي طبيعة الوجود الإنساني لا أكثر. وحين خرج الغرب على هيمنة رجال الدين والكنيسة لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن حقيقة الإنسان في سعيه الأبدي نحو الاستقلال والحرية. واليوم في عالمنا الإسلامي، عندما تُطرح قضية العلمانية، فهي تطرح نفسها من هذا الباب، من باب تحقيق الإنسان لإمكاناته الأصيلة وعلى رأسها الحُرية.

 

(3)

صحيحٌ أيضاً أننا لم نعرف الكهنوت في الدين الإسلامي، ولم نعرف في تاريخنا سُلطة كسلطة الكنيسة، فالعلاقة الإيمانية هي علاقة أصيلة يقيمها الإنسان المؤمن بكامل حريته مع الله، بدون أي نوع من الوساطة. ولكن، -ويا للمفارقة-  لهذا السبب بالذات عرف تاريخينا نوعاً آخر من الصراع حول الحقيقة والمشروعية الإلهية، وأصبح من الممكن لأي حاكم مستبد أو غير مستبد، أو لأي فئة أو جماعة أو حتى فرد أن يعمل على تحقيق "إرادة الله" في الأرض، وذلك بعد استخراج "الحقيقة" الإلهية من النصوص المقدسة، الحقيقة كما "أرادها الله" بكل وضوح لا لبس فيه.

 

وذلك بدون أي وعي بطبيعة الإيمان الديني نفسها (والتي تحدثنا عنها هُنا في أكثر من مقال)، ناهيك عن الوعي بوجود تأويل أو حتى تلاعُب أيديولوجي وتوظيف للنص لخدمة أهداف دنيوية "علمانية" متعلقة بالصراع الأرضي التاريخي. لقد عرفنا هذا النوع من "الكنيسة" في الحضارة الإسلامية.

 

(4)

إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل معتقداتهم، ويضحون كذلك بالآخرين، بحياة ومستقبل الأُخرين، هُم أيضاً بما أنهم يعيشون هُنا على الأرض فإن دوافعهم وأهدافهم واعتقاداتهم هي جميعاً تنتمي إلى مجال الوعي والشعور والفكر الإنساني

وفي الواقع فإن الكنيسة الغربية نفسها لم تكن أقل علمانية من أي مؤسسة علمانية موجودة الآن. فالصراع الذي دار في الغرب لم يكن بين الدين والعلمانية، لأن الدين كمفهوم مجرد لا يُمكنه أن يصارع، فالذي يصارع هو الإنسان، سواء كان كاهناً أو شيخاً، وهو يصارع من أجل نفوذه وسُلطته هو، لا من أجل سُلطة الله، لأن الإنسان ببساطة ليس هو الله.

 

ومن هُنا فإن الصراع مع الكنيسة لم يكُن صراعاً مع الله ولا مع إرادة الله. وكذلك لن يكون الصراع مع القوى الدينية في العالم الإسلامي صراعا مع الله، أو مع إرادة الله، ولا صراعا مع الدين الإسلامي.  إن الصراع البشري-البشري هو صراع علماني بطبيعته، ولا فرق بين مؤسسة كنسية ومؤسسة حزبية إسلامية أو أي مؤسسة دينية. ففي الأرض هُناك بشر يتصارعون حول الحقيقة والسُلطة والنفوذ.

 

وحتى أولئك الذين يضحون بأنفسهم في سبيل معتقداتهم، ويضحون كذلك بالآخرين، بحياة ومستقبل الأُخرين، هُم أيضاً بما أنهم يعيشون هُنا على الأرض فإن دوافعهم وأهدافهم واعتقاداتهم هي جميعاً تنتمي إلى مجال الوعي والشعور والفكر الإنساني، تنتمي إلى الأرض مهما كانت تسعى نحو الخلاص، إلا أنها إنسانية أرضية في النهاية.  من هُنا تأتي أهمية الوعي بالوعي وبالعقل، فحينما نقول إن الوعي الإنساني هو كل شيء ونجادل طويلا في ذلك، فإن هذه القضية ليست قضية فلسفية مجردة، بل تمسّ الواقع في الصميم. إن أكبر مشكلة نعاني منها هي غياب ما اسميه "الوعي بالإنسان" هناك مقال سابق بهذا العنوان.  

 

(5)

 عندما يتعلق السؤال بالطريقة التي يجب أن نعيش بها أو التي نحكم بها أنفسنا، أو الطريقة التي ندير بها اختلافاتنا وصراعتنا الفكرية والسياسية وغيرها، أو الطريقة التي نحقق بها السلام والعدالة والرفاهية لمجتمعاتنا، فإن الآراء والأفكار والمواقف المطروحة لا تعبّر إلا عن أصحابها، لأننا نحن الذين نفكِّر ونتكلَّم ونصنع الأفعال والمواقف، نحن الذين نعيش في الأرض في التاريخ البشري، ولا أحد فينا هو الله ولا المسيح ولا محمد. ولذلك فإن صراعنا هو صراع علماني منذ البداية، والدين موضوع في هذا الصراع، أي أن الدين هو جزء من الصراع. وليس هناك وجود لقوى محايدة وبيدها الحقيقة وكأنها ليست جزءا من المجتمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.