شعار قسم مدونات

الدين والمعنى

blogs - duaa

(1)
أقصد بالمعنى ذلك الشيء الذي تشير إليه الكلمات، والذي يُوجد في الإنسان. مثلا عندما أقول "أستغفر الله العظيم" فإن هذه الكلمات تعبِّر عن معنى أشعر به أو أعيشه في نفسي. وهذا المعنى قد يتسع أو يضيق تبعا لتجربتي الدينية أو عُمقي الفكري. فكل إنسان يصنع معناه الخاص للأذكار، والذي قد يكون محتوىً شعوريّا حيّا وليس مفهوما ذهنيا مجردا. فالاستغفار قد يعبِّر عن حالة شعوريّة معينة يعيشها الإنسان، فهي توجد فيه، والكلمات فقط تعبِّر عنها. أي هي شيء سابق -أنطولوجيّا -للغة وللكلمات، تماما مثلما أن الإنسان سابقٌ للغة لأنه هو الذي يصنعها، والمعاني الشعورية تُوجد في الإنسان بطبيعته. بعبارة أُخرى، إن الأساس الأنطولوجي لهذا المعنى الشعوري، ليس هو اللغة الدينية ولا الاعتقاد، وإنما الإنسان. واللغة الدينية تمنح الإنسان الإمكانية للتعبير عن هذا الشعور.

بالنسبة لمثال الاستغفار، قد يكون المعادل الشعوري و-بدرجة أقل- الذهني، هو الحاجة إلى الرجوع إلى حالة أصلية أو أساسية للنفس، أي أن الإنسان عندما يستغفر فهو كأنما يفترض -شعوريّا أو ذهنيّا- أن هُناك حالة طبيعية معيارية يمكنه الرجوع اليها حينما يستغفر، هي حالة الإنسان النقي على سبيل المثال. فهُنا الاستغفار قد يعبِّر عن الرغبة في العودة إلى حالة النقاء، أو الحالة المرجعية والمعيارية للنفس التي ينبغي أن تكون عليها دائما. وبالطبع هذا أحد المعاني الممكنة، والتي كما سلف تعتمد على التجربة الذاتية والفكر.

لقد قام الدين بما يشبه "عملية تشفير" للشعور الإنساني في لغة ذات مضامين لاهوتية محددة، بحيث أصبح المضمون اللاهوتي للغة طاغيّا على الشعور الإنساني

فبالنسبة لشخص آخر قد يعني الاستغفار محواً للخطايا أو الذنوب، ولكن بكيفية شعورية ذاتية غير معروفة إلا بالنسبة للذي يختبرها، وقد يعني الاستغفار بالنسبة لإنسان آخر معنى شعوريا آخر. فالرغبة في العودة إلى وضع طبيعي قد تكون مصحوبة باعتقاد ديني بمحو الذنوب، وقد تكون رغبة بشكل أساسي في الاتساق مع النفس ويمكن أن توجد حتى لدى الإنسان غير المتديِّن. ولكن اللغة الدينية، يُمكن القول أنها تحتفظ الصورة الأكثر تجريدا لهذا المعنى، وللمتديّن بعد ذلك أن يخلق المعنى الشعوري المقابل لهذه الصورة وفقا لتجربته ولفكره. بينما الإنسان غير المتديّن قد يملك الرغبة في العودة إلى وضع طبيعي معياري مثالي، أي يملك نفس الشعور الذي تعبّر عنه "أستغفر الله" ولكنه يفتقر إلى الكلمات المناسبة.

لماذا يفتقر غير المتديّن إلى الكلمات؟ أحد أهم الأسباب هو أن اللغة الدينية بالنسبة له قد تبدو محمّلة بمضامين لاهوتية ميتا فيزيقية هو لا يؤمن بها. ولكن هذه بحد ذاتها نظرة لاهوتية أُسطورية للغة، إذ تفترض أن المعنى يأتي من فوق أو خارج الإنسان، وتتجاهل حقيقة أن اللغة الدينية منذ البداية كانت تعبّر عن الإنسان وعن الشعور الإنساني، وليس عن الغيب. فالاعتقاد أن بأن الاستغفار ينطوي على مسلمات لاهوتية وأن كل ترديد لعبارة "أستغفر الله العظيم" ينطوي على سلسلة من الإقرارات اللاهوتية، يختزل اللغة الدينية فقط في ظلالها الاعتقادية، ويلغي الواقع الشعوري الحقيقي والأصيل الموجود في الإنسان نفسه، أي تلك الرغبة في العودة إلى حالة مثالية للنفس البشرية.

إن الاستغفار هو مجرد مثال لتوضيح الانفصال بين المعنى الشعوري الذي محله الإنسان، وبين اللغة الدينية كمعبِّر عن هذا المعنى بأكثر من كونها صانعة له.

(2)
يُمكن إذن النظر إلى اللغة الدينية كمستودع يحمل الكلمات المعبِّرة عن جانب هام وأصيل من الشعور الإنساني، بحيث يعني غياب هذه اللغة غياب هذا الجانب من الشعور الإنساني، وبالتالي ربما جزءا من الإنسان نفسه، أي أن الإنسان الذي يعاني نقصا في هذا الشعور يكون كمن نقص جانبا أساسيّا من جوانب الإنسان.

مفاهيم دينية كثيرة تعكس جوانب من شعور الإنسان، ولا يمكن أن يُوجد مقابل لها في اللغة "العلمانية" (لم أجد غير هذه الكلمة للتعبير عن اللغة المقابلة للغة الدينية) . والسبب هو أن هذه اللغة تتوخى الموضوعية وتحصر نفسها بالتالي في حدود العالم "الموضوعي" المحدد بالزمان والمكان والإنسان -في بُعده الموضوعي أيضا.

لقد قام الدين بما يشبه "عملية تشفير" للشعور الإنساني في لغة ذات مضامين لاهوتية محددة، بحيث أصبح المضمون اللاهوتي للغة طاغيّا على الشعور الإنساني الذي يقف خلف هذه اللغة، والذي ما وُجدت، في البداية، إلا لكي تعبِّر عنه. هكذا أصبح المعنى مخفيّا في اللغة الدينية بحيث يتعذر الوصول إليه إلا بواسطة الصوّر التاريخية للاعتقاد الديني. أصبح الطريق إلى الشعور الذي يعبِّر عنه الاستغفار على سبيل المثال هو الاعتقاد الديني كما تم تشكيله وتثبيته في التاريخ. أي لكي تحصل على شعور الاستغفار يتوجب عليك أن تعتنق عقيدة محددة يأخذ مفهوم الاستغفار داخل إطارها معنى محددا – تم تحديده بواسطة سُلطة تحديد المعاني التي تمثلها طبقات من الفقهاء والعُلماء في هذه العقيدة.

ينبغي إذا فك هذه الشيفرات للوصول إلى المعنى الشعوري الإنساني الكامن وراء هذه اللغة، والذي يمثِّل ثروةً وميراثا إنسانيا تختزنه اللغة الدينية، فاللغة في النهاية منتوج إنساني ساهمت فيها قرون من البشر، وقد أودعت فيها ثروة هائلة من المعنى والشعور هو إرث للأُمة بأسرها، إن لم يكن للبشرية بأسرها طالما أن الحضارات تتأثر وتتوارث فيما بينها.

كما ينبغي أيضا ألّا ننسى أن الشعور الإنساني الذي يتم التعبير عنه بواسطة لغة دينية يمكن أن يكون سلبيا. فعندما أردد أحد الأدعية الموجَّهة ضد الأعداء أو الخصوم فأنا هنا أعبِّر عن شعوري النفسي تجاههم بواسطة هذه اللغة. اللعنات على سبيل المثال والتي يطلقها البعض دون أن يفكِّروا في الذي يطلبونه من "الله"، أو الدعوات الانتقامية التي تُرفع وكأن مهمة الله هي تنفيذ رغباتنا الانتقامية، والتي لا نتساءل عن أخلاقيتها أو حتى مجرد عدالتها. بالطبع حين نتكلم عن أهمية استعادة الشعور أو المعنى الذي تحمله اللغة الدينية فنحن لا نتكلم عن استعادة هذا مثل هذا الشعور.

(3)
الأمثلة كثيرة للمعاني التي تحملها اللغة الدينية، الأذكار هي أحد الأمثلة، فعندما نقول "سبحان الله" ، أو "الحمد لله" ، أو عندما نسأل الله الرحمة أو اللطف أو التوفيق فنحن نعبِّر عن شعور يقف وراء هذه الكلمات، هو شعورٌ إنساني قبل أن يكون شعورا دينيا بالمعنى العقائدي للدين. مفاهيم كثيرة أُخرى مثل التقوى، التوكُّل، التطهُّر، التوبة، هي مفاهيم دينية ولكن وراءها شعور إنساني، يمكن ان يرغب الإنسان غير المتديّن في أن يحصل عليه بمعزل عن الحمولات اللاهوتية التي قد تعبِّر عن رؤية تاريخية محددة، أو عن عقيدة جامدة تريد أن تتحكم حتى في المعنى الذي يجب أن تخلقه الكلمات في الإنسان، بحيث يجب أن يشعر بهذا "المعنى الصحيح" وحده دون غيره.

لا ننسى بالطبع أن الإنسان لم يتوقف عن إبداع المعاني والمفاهيم، مثلما أنه لم يتوقف عن إبداع الأخلاق

من المتوقع أن يثور اعتراض هُنا مفاده أن اللغة هي التي تخلق المعنى وتخلق الشعور أيضا وليس العكس، وأن المعنى ليس شيئا يوجد منعزلا في الإنسان أي إنسان، بل يجب أن يوجد دائما ضمن شبكة من المفاهيم وفي إطار رؤية كلية، وهذه الرؤية لا يُمكنها إلا أن تكون عقيدةً دينية. بمعنى أنه لا يُمكن أن يوجد استغفار أو توبة أو تقوى الا ضمن عقيدة، مثلما أنه لا يمكن ان يوجد ذكر لله إلا داخل إطار من الاعتقاد يمنح هذا الذكر معناه ودلالته.

هذا الاعتراض على قدر من القوة والوجاهة لا يُمكن إنكاره. ولكنه يتجاهل تاريخية تشكُّل اللغة عموما، واللغة الدينية على وجه الخصوص، فاللغة لا تُوجد في التاريخ دفعة واحدة، وإنما يطورها البشر عبر تاريخ طويل من التجارب والتفاعُل بين الإنسان مع نفسه والعالم والبشر بعضهم مع بعض، وكذلك اللغة الدينية وشبكة المفاهيم التي تصنعها لا تتكوّن دفعة واحدة وإنما عبر تاريخ طويل، والاعتقاد كذلك يتشكل عبر التاريخ، وهو يختلف عن التجارب الإيمانية الحية والتي أيضا تتكوَّن في التاريخ أي في الأرض، في البشر، وهي تجربة انفعالية شعوريّة في الأساس. أي أن الإنسان في التجربة الإيمانية يمر بمختلف الحالات الشعورية ويعبّر عنها بواسطة لغة موجودة في التاريخ الذي يعيشه، وهذا يعني أسبقية الانفعال الشعوري على اللغة التي تعبِّر عنه وإن كان وجودها في التاريخ سابقا لوجود الإنسان الذي يستخدمها ليعبِّر بها عن انفعالاته وأفكاره.

في المقابل لا يمكن نفي قوة التأثير التي تملكه اللغة عموما، واللغة الدينية على وجه الخصوص، حيث تستمد الاخيرة تأثيرها من الإيمان والاعتقاد بالإضافة إلى البيان. وهنا أيضا تظل تعبِّر الشعور الإنساني.

(4)
لا ننسى بالطبع أن الإنسان لم يتوقف عن إبداع المعاني والمفاهيم، مثلما أنه لم يتوقف عن إبداع الأخلاق. فإذا كانت هُناك جوانب من المعاني الشعورية تملك اللغة الدينية مفاتيح الوصول اليها، فإن هُناك جوانب جديدة قد تم خلقها، وتملك اللغة الحديثة مفاتيحها ورموزها. هُناك عالم هائل من الشعور تملك مفاتيحه لغة الفن. الموسيقى على سبيل المثال. فالذي يتحدد شعوره بحدود اللغة الدينية قد يعاني فقرا في جوانب عديدة، الجوانب التي يعبِّر عنها الفن.

بالنسبة للأخلاق يمكن أن نشير بشكل سريع إلى مفهوم مثل مفهوم التسامح، فقد يعاني الإنسان الذي يستمد معاييره الأخلاقية من اللغة الدينية من انعدام هذا المفهوم لغيابه في ذلك التاريخ الذي تشكلت فيه هذه اللغة. ولا يفوتنا هنا أن نستثني نصوصا مثل نصوص ابن عربي " لقد صار قلبي قابلا كل صورة… "، التي تمثل أرقى صور التسامح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.