شعار قسم مدونات

الفقراء و"ساعة الأرض" !

BLOGS- ساعة الأرض
في يوم السبت الماضي أطفأت مدن وعواصم في أنحاء العالم أنوارها في إطار مبادرة "ساعة الأرض" التي انطلقت قبل عشر سنوات بهدف تسليط الضوء على ظاهرة الاحتباس الحراري وتذكير الناس بضرورة المحافظة على البيئة في مواجهة التغير المناخي.


في "ساعة الأرض" تُطفأ الأنوارُ بالمنازل، وتستخدِم المطاعمُ شموعا للإضاءة، وتقوم إدارات أشهر المعالم السياحية والأثرية في العالم بإطفاء أضوائها مثل برج إيفل في باريس، وسور الصين العظيم، وبرج بيزا المائل بإيطاليا، ومبنى إمباير ستيت في نيويورك، ومبنى الكرملين في موسكو، وبرج خليفة في دبي، والمسجد الأحمر في إسطنبول وغيرها.


هي ساعة واحدة تمنحها المؤسسات العملاقة وأصحاب الفنادق الفخمة والشركات الكبيرة، والأحياء البرجوازية الراقية، لصالح الأرض، يتبرعون فيها بالصبر على 60 دقيقة من الظلام الخفيف، والضوء الخافت، لتوفير كميات هائلة من الطاقة، مساهمة منهم في حماية البيئة من التغيرات المناخية الخطيرة، والتي بدأت تهدد حياة سكان هذا الكوكب بمزيد من الأزمات والكوارث البيئية.


إن الفقراء عظماء حقا وأسخياء جدا خصوصا للأرض التي ألفتهم وألفوها، ومنحتهم ظهرها ليفترشوه، وطرقاتها ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزق الله، فلم تحل بينهم معها قصور مشيدة، ولا فنادق فخمة، ولم يدفعهم الجشع لقطع غاباتها، ودس النفايات فيها لتأسيس شركات رأس مالية هدفها الربح.

بلغة الأرقام، تتحدث الإحصائيات عن نتائج لا بأس بها، ففي هذه السنة 2017، وفرت مصر في هذه الساعة: 200 برميل من البترول وحدت من انبعاث 500 طن من ثاني أوكسيد الكربون، كما وفرت الإمارات 300 ميجاوات من الكهرباء وهو ما يكفي لإضاءة 60 ألف منزل.. وقس على ذلك ما وفرته بقية الدول المشاركة في هذه المبادرة، من أوروبا وآسيا وإفريقيا وبقية القارات.

 
وحقا هذا عمل رائع، وهدف نبيل، يجب أن يشارك فيه الجميع، فكيف شارك فيه الفقراء في أوطاننا، وما الدور الذي يقدمونه للبشرية في هذا المضمار؟


إن الفقراء عظماء حقا وأسخياء جدا خصوصا للأرض التي ألفتهم وألفوها، ومنحتهم ظهرها ليفترشوه، وطرقاتها ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزق الله، فلم تحل بينهم معها قصور مشيدة، ولا فنادق فخمة، ولم يدفعهم الجشع لقطع غاباتها، ودس النفايات فيها لتأسيس شركات رأس مالية هدفها الربح ولو على حساب مصالح البشر والشجر والحجر… كما يفعل كثير من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال الكبيرة و قادة وزعماء هذا العالم.


إن هؤلاء الفقراء من حيث المبدأ، أشخاص رائعون وأناسٌ مسالمون، أصحاب "طاقة نظيفة" تعمل بوقود القناعة، ومحركات الإيمان، ومضخات البساطة.. وتلتزم ب"السلام" مع البشر والبيئة.


لذا فإن مشاركة الفقراء في "ساعة الأرض" أعظم بكثير مما قد يتصوره أصحاب هذا النشاط، وأكبر بكثير من أي مشاركة يقوم بها غيرهم، فأغلب الفقراء حول العالم يمارسون مهنا كالخياطة والحياكة والنسيج والحِرَفِ اليدوية البسيطة، التي لا تؤثر في "ثقب الأوزون" ولا تلوث الفضاء، فهم لا يملكون أي مصانع تُسَبب انبعاثَ الغازات السامة الملوثة للجو والبيئة، ولا يصنعون السلاح، ولا يشنون الحروب.. بل هم ضحية ذلك على الدوام.


كما أن أغلب هؤلاء الفقراء حول العالم لا يعرفون الكهرباء أصلا، فهم يعيشون في قرى معزولة، ويحصلون على حوائجهم بوسائل بدائية، يعيشون حياتهم جميعا لأجل الأرض، وليس ساعة واحدة فقط! 
قد تقول لي إن السبب في هذا هو سوء تسيير الحكومات للشأن العام وفشلها في توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية وإيصال مقومات الحياة الكريمة إلى هؤلاء. أقول لك صحيح، ولكن هذا يدل على عظمة الفقراء وسفالة هذه الحكومات!


ما لا يعرفه الكثيرون أيضا.. وهم يوقدون الشموع في "ساعة الأرض" فيشعرون بذلك الجو الرومانسي البديع، أن هذه الشموع هي أنيس الفقراء الدائم في ليالي الشتاء الطويلة، بل هي جزء أساسي من حياتهم، فعلى ضوئها يسهرون ويقرؤون ويتبادلون الحكايات والضحكات وعلى ضوئها يرون أحلامهم الجميلة التي تحاصرها التحديات من كل جانب.


إن الفقراء الذين يكتفون بالقليل، ويقنعون بالأشياء البسيطة هم الأكثر سعادة وإسعادا لهذه البشرية اللاهثة وراء رغباتها اللاَّمتناهية، والمشغولة بالتنافس المحموم في الحصول على المادة بأي ثمن، وتحصيل المتعة واللذة بأي طريقة!

إنني على قناعة تامة أن الفقراء دوما يسبقون غيرهم إلى الأعمال العظيمة ولو تم تحديد "ساعة للمريخ" للتذكير بعدم وجود المياه عليه، لكان الفقراء أسبق الناس إلى تخليد هذا النشاط، وأكثر من يشارك بفعالية في هذه المبادرة، فهم أقل الناس حصولا على الماء الصالح للشرب في عالمنا اليوم!


إن الفقراء الذين يكتفون بالقليل، ويقنعون بالأشياء البسيطة هم الأكثر سعادة وإسعادا لهذه البشرية اللاهثة وراء رغباتها اللاَّمتناهية، والمشغولة بالتنافس المحموم في الحصول على المادة بأي ثمن، وتحصيل المتعة واللذة بأي طريقة!


ربما تكون إدارة "الصندوق العالمي للطبيعة" أرادت من هذه المبادرة مجرد التذكير بالمسألة البيئية، لكني رأيت فيها جانبا آخر ملهما، وفرصة مناسبة للتذكير بعظمة الفقراء وما يقدمونه لهذه البشرية من الإيثار في أساسيات الحياة كالكهرباء والماء، فضلا عن كمالياتها من المتع والملذات.


فتحية إلى ملايين الفقراء حول العالم في "يوم الأرض" و "ساعة الأرض".. وهم يحمون البيئة والبشرية جمعاء، بقناعتهم وكدحهم وتواضعهم وبساطة حياتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.