شعار قسم مدونات

حين صار الإسلام مشكلة.. هل ستصير العلمانية هي الحل؟

blogs - العلمانية
لا شك أننا اليوم بتنا بحاجة إلى بوصلة تُحدّْد لنا مواقعنا الإيديولوجية، تمامًا كتلك التي تُحدّد لنا مواقعنا الجغرافية، خاصة ونحن نعيش هذه الفوضى من الاتجاهات الفكرية، والتي كانت لها آثارها الخطيرة السياسية والأمنية، مما يجعلنا بحاجة إلى وقفة تأملٍ عميقة، تُخلّصنا من هذا الدوارالميتافيزيقي كما يدعوه علي عزت بيغوفيتش.

فلو نتأمل عالمنا العربي اليوم سنجد أنّ جُل ما حلَّ فيه من فوضى وفساد هو بسبب بُنية الأنظمة العربية، التي منها ما انساقت للأنظمة الغربية بدعوى الليبرالية، واتجهت للعلمانية، ومنها ما أرادت أن تكون أنظمة إسلامية لكنها انجرفت خلف كل أنظمة دينية كنظام ولاية الفقيه والأنظمة الوراثية، وأمام هذه المعضلة نحن بحاجة إلى فهم عميق للاتجاهات الفكرية الصحيحة التي نقيم عليها أنظمة حكم في عصر لم يعد فيه الإنسان يقنع بالحياة الحيوانية والحتمية الطبيعية، وصارشغوفًا بحياة الحرية، والبحث عن المعنى وأسرار الكون والحياة، وكذا ماهية القبس الإلهي الذي يجعل حياته صعبة التفسيرماديًا، فحتى الغرب يقولون على لسان فولتير:"لماذا تحاربون الله، فحتى لوكان الله غيرموجود لوجب علينا أن نوجده".

لكن في الإنجيل أيضا المسيح بزعمهم يقول: "ما لله لله، وما لقيصرلقيصر"، غيرأننا كمسلمين نؤمن بأنّ الشريعة كلها مصلحة، فهل هي كذلك أيضا كنظام حكم؟ أم أنّ تعدد المذاهب الدينية داخل الدولة الواحدة يجعل المصلحة تكمن في تطبيق نظام حكم علماني يفصل بين الدين والدولة؟

أولًا: إنّ الله عز وجل عندما أمر باتباع حكمه جعل في الوقت نفسه الإنسان مستخلَفا فيه، ولو شاء لجعل لأجل ذلك مَلكا يفعلون ما يؤمرون، لكنه جعل انسانا متميزا بالعقل الذي يملك حرية الاختيار، وبما أنه يملك ذلك فالأمر مناط تفكير واجتهاد، وليس تَلقّي واستعداد. ولذلك قال فقهاء الإسلام أنَّ تطبيق الشريعة أوالدولة الإسلامية فرع وليست أصل، وتركُها ليس كفر.

ثانياً: ينبغي أن نُغربِل المفاهيم التي تخلط بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية، فالدولة الدينية هي دولة تقوم على الشريعة، إنما المستخلَف في تطبيق الشريعة ليس الأمة بل الحاكم، تمامًا كنظام ولاية الفقيه بإيران، بينما الدولة الإسلامية هي دولة تقوم على الشريعة إنما المستخلَف في تطبيق الشريعة ليس الحاكم بل الأمة، فالأمة في الدولة الإسلامية تختاره وتعزله أيضا، تمامًا كما قال الخليفة أبو بكرالصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله واعزلوني ماعصيته". إنما ما نراه يفسد بعض أنظمة الحكم العربية اليوم وإن كانت إسلامية، هو أنّ تلك الأنظمة قائمة أساسًا إمّا على أنظمة وراثية لا تخضع لاختيار الشعب، وإما أنها أنظمة تريد أن تجعل من الدين سُلطة، وكلاهما دكتاتورية مستبدة مفسدة، والدين الإسلامي منها براء.
 

صدر تشريع من الكونغرس بإنشاء منصب سفير متجوّل للحريات الدينية، وكذلك تأسيس الهيئة الأمريكية للحريات الدينية، إلى جانب الثورة الإسلامية الإيرانية التي راحت تتمدد خارجيا بغرس طائفة الشيعة في المناطق السنية.

فنحن جميعا نعلم أنّ رسالة الإسلام طافحة بالقيم الأخلاقية، بما فيها قيمة الحرية، قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"، أي أنّ الإسلام جاء ليتمّم المكارم التي جُبل عليها الإنسان بأخرى غير مجبول عليها كالحرية. فهذه الأخيرة كثيرًا ما نرى الإنسان يُجرَّد منها قبل حتى أن تستوعِب رئتيه هواء هذاالعالم، فيولَد مطوًّقًا بسلطات عليا كتلك التي في الجاهلية، وما تعلّق منها بوأد البنات، حيث تُكبّل الفتاة بحتمية جنسها بسلطة عليا مستبدة، تُنهي إلى الأبد حياتها.

قال عزوجل: "وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ"، وكأنّ الله جلّ وعز بقوله: "بأيّ ذنب" أراد تنبيهنا إلى قيمة أخرى جعلها السبب الأول في إرسال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وهي الرحمة فقال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".

فإذا كانت الأخلاق طائرًا فإننا نرى جناحه الأول هو الرحمة، وجناحه الثاني هو الحرية. إذ لا يمكن أن تتحقق الحرية بقيمها السامقة بعيدًا عن الرحمة، فلا معنى مثلا لتلك الحرية الغربية التي تعيث في الأرض فسادًا، وتجعل من القاذفات الفوسفورية، والبراميل الكيماوية ممارسة لسلطة تتمتع بالحرية.
فحاجة الحرية إلى التنظيم هي حاجة مُلحّة، لخضوعها لطغيان الأهواء التي لاحدّ لها ولا اكتفاء، والرحمة هي أحد تلك المَسدّات التي ستضرب على يد الظالم فتردعه عن الفساد، وتمنع القوي من الاستبداد، والغني من الاستعباد، والكبيرمن أن يستكبر، والحاكم من أن يتجبّر.

ففكرة العلمانية إذن لن تكون أبدًا هي ما يجعل الدول الغربية دولا ديمقراطية، تتمتع بالتعايش السلمي كما هو ظاهر الأمر، بل على العكس من ذلك تمامًا، ستبقى تلك الدول تعاني الاستبداد سواء في فضاءات سياساتها الداخلية أوالخارجية، لأنها لم تتعرّف بعد إلى المعنى الحقيقي للدِّين الذي يربط الحرية بالرحمة، وكأبسط مثال على ذلك اليوم هو رئيس أمريكا ترمب، الذي نرى في حكمه التعارض الصارخ بين قيمة الحرية وقيمة الرحمة، ففي سياسته الداخلية مارس سلطته بعنف على من لا ذنب لهم سوى أنهم مختلفون في اللون، العرق، والمعتقد، وأما خارجيا فهو الذي جمع كيده ليكسر شوكة الإخوان المسلمين، ويصنفهم كتهديد دولي إرهابي.

فإذا ما أرادت الشعوب نظام حكم رشيد، فهي بحاجة لتفعيل الديمقراطية التي تؤهّل الشعب لاختيار الحاكم الذي يريد، شرط أن يكون هذا الحاكم ذو قدَم راسخة في تربة القيم الأخلاقية، فلا يسلب الشعب حرية التعبير، ولا ينفرد بالحكم وكأنه بكل شيء عليم، ولا يتولى السلطة والقضاء، وكأنه على كل شيء قدير.

أما ما تعلّق بالحاكم غيرالمسلم فلكلٍّ من الدول الغربية والدول الإسلامية شأن يغنيه، فلا تتدخل الدول العربية في غيرها باسم أنّ الإسلام للناس كافة، بل عليها أن تكتفي بتطبيق ما يناسبها من أنظمة حاكمة، دون أن تلتفت إلى يمين أو يسار الأنظمة الغربية، وفي المقابل لن تكون الدول العربية مُلزَمة بالانحناء للدول الغربية بتبني العلمانية. فيكون بذلك لكل نظام حكم إسلامي دائرتين يسبح في فلكهما:
الدائرة الأولى هي: دائرة الحكم الداخلي التي تكون إسلامية، والدائرة الثانية هي: دائرة الحكم الخارجي والتي تكون علمانية.

سبيل خَلاص الدول العربية إقليميًا ودوليًا فهو بفرض سيادتها الخارجية، وإحاطة سلطتها بسياج متين، يمنع أي دولة من التدخل في شؤونها الداخلية، بما فيها أنظمتها الإسلامية.

فلا تتدخل إيران مثلا في الدول الإسلامية بهدم المساجد وتحويلها إلى مزارات حسينية، ولا في تغيير شعيرة من الشعائر الدينية، ولا أمريكا بما نشهده من تناقض رهيب في سياستها، خاصة وأنها من أبرز الدول الموظفة للدين في سياستها الخارجية، رغم أنّ نظامها الدستوري ينص على فصل الدين عن الدولة، ففي العام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعون، صدر تشريع من الكونغرس بإنشاء منصب سفير متجوّل للحريات الدينية، وكذلك تأسيس الهيئة الأمريكية للحريات الدينية، إلى جانب الثورة الإسلامية الإيرانية التي راحت تتمدد خارجيا بغرس طائفة الشيعة في المناطق السنية.

أما ما تعلق بالأمور الاقتصادية والمعاملات الدبلوماسية، ففي ذلك سعة من المواثيق الدولية، والتي وإن كانت علمانية، فإنها ستكون خاضعة لمرجعية معرفية بما لا يتعارض أغلبه مع المرجعية الدينية.

فحين نخلق علمانية خارجية في علاقة الدول الإسلامية بالدول الخارجية، فإننا بذلك نفصل التعاملات الدينية عن العلاقات السياسية، بما فيها الاهتمام بالتنظيمات الإسلامية، ونجعل ذلك متعلقا بكل دولة ومن صميم سيادتها الداخلية، فنقضي على ذريعة داعش وغيرها من تدخلات الدول الكبرى في سياسات الدول العربية، وكذلك سنحد من مطامع بعض الدول في الامتدادات باسم الإسلام، كمشروع ملالي الثورة الإيرانية، لتصبح التدخلات الدينية الخارجية هي نوع من التعدي على سيادة الدول الإسلامية وشؤونها الداخلية.

وهكذا فإنّ خلاص الدول العربية من تمزقاتها الداخلية إنما يكون بنظام إسلامي قائم على حاكم عادل، لا يرى إلا ما يراه شعبه، يُنتخَب منهم، ويُعزَل مِن أجلهم، كذلك تكون السلطة التشريعية فيه ذات مرجعية دينية، والقضاء فيه مفصول عن السلطة، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها سلطة الرأي، إنما لا تتدخل في الشرائع ولا العبادات، بل تكتفي بالترهيب والترغيب فيما يتصل بالشأن العام.
وأما سبيل خَلاصِها إقليميًا ودوليًا فهو بفرض سيادتها الخارجية، وإحاطة سلطتها بسياج متين، يمنع أي دولة من التدخل في شؤونها الداخلية، بما فيها أنظمتها الإسلامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.