شعار قسم مدونات

الشُّعراء المُتحوِّلون

blogs - boo

لم يكن الجَمْعُ بين الأجناس الأدبيّة يُشكّل عائِقًا عندَ المُبدِعين الأوائل، كان الجاحظ يُتقن علومًا شتّى كالفلك والحيوان والأدب واللّغة والغِناء والنّقد والتّفسير، وكان ابن سينا – الّذي اشتُهِر طبيبًا – شاعِرًا من قبلُ وفيلسوفًا، وكان ابنا زُهر الأندلُسِيَّان الجَدّ والحفيدُ طبيبَين؛ مع أنّ الإرث الحضاريّ قدّمهما لنا شاعِرَين وَشّاحَين.

 

لم تكن حدائق بعضِ المُبدِعين الأوائل تتزَيّن بنوعٍ أو لونٍ واحدٍ من الورود، بل كانت تلك الحدائق غنّاء، يجدُ فيها المُنتجِعُ أصنافًا شتّى، ولم يكنْ يُنظَر إلى هذا التّلوين في اللّوحة – مع غَلَبةِ لونٍ في تلك اللّوحة على سواه – بأنّه تحوّلٌ من جنسٍ أدبيٍّ إلى آخَر، بل كان النّتاج المعرفيّ للمُبدِع أو العبقريّ هو ما يُميّزه حينَ يُؤخَذ بأكمله لا مُجَزَّأً، لكنّه كان – وَفقًا للطّبيعة الّتي ركّبها الله فيه – يغلِبُ عليه أنْ يبرَع في جنسٍ من هذه الأجناسِ بعينِها فيُعرَف بها ويُشتَهَر، والأمثلة على ذلك أكثر من أنْ يأخذها قانون الضّبط والحصر كما يقول ابن خلدون.

 

فبالإضافة إلى الأمثلة الّتي طرحتُها آنِفًا، لدينا بديع الزّمان الهمذانيّ الّذي كان شاعِرًا لكنّه برعَ في المقامات، والرّازي الّذي كان طبيبًا وموسيقيًّا، وابنُ جُبَير الّذي لم تمنعه شهرته في رحلته: (رحلة ابن جُبير) من أنْ تُقدّمه شاعرًا رقيقًا، وليناردو ديفنشي الّذي كان نحّاتًا ورسّامًا وموسيقيًّا وجيولوجيًّا وعالِمَ نباتٍ ومُهندِسًا، ولدينا في العصر الحديث الرّافعي فبالرّغم من براعته في النّثر وحَوزِه قصبَ السّبقِ في هذا الميدان إلاّ أنّ ذلك لم يُلغِ كونه شاعرًا حكيمًا، وكذلك العقّاد صاحب العبقريّات ربما قليلون مَنْ يعرفُ أنّه شاعرٌ وديوانه ضَخمٌ يتألّف من ستّة أجزاء، وكذلك ميخائيل نُعيمة الّذي كان من مُؤسّسي الرّابطة القلميّة في المهجر والنّاقد الّذي تجلّى حِسّه النّقديّ في (الغربال)، هو شاعرٌ وقاصٌّ وفيلسوف، وهو إلى ذلك مُحامٍ لم يدخل قاعةَ محكمةٍ في حياته، وكذلك علي محمود طه صاحب رائعة: (أخي جاوزَ الظّالِمون المدى) هو في الأساس مُهندِسٌ، لكنّ هندسته غَرِقتْ في بحورِ شِعره، ولو أردتُ أنْ أعدّد المُهندسين الّذين برعوا في الشّعر لطالت القائمة وتشعّبتْ!! وحَسْبُكَ من السِّوارِ ما أحاطَ بالمِعصم كما يقولون.

 

ولْنَعُدْ إلى عنوان هذه المقالة: (الشّعراء المُتحوّلون)، وأقصِدُ به هنا أولئك الصّنف من الشّعراء الّذي تركوا الشّعر وتحوّلوا إلى الرّواية.

 

والسّؤال هنا: هل صار تحوّل الشّعراء إلى هذا الجنس الأدبيّ الرّائج ظاهرةً مُقلِقة؟ لماذا يتخلّى الشّعراء عن شعلة الشّعر المُقدّسة من أجل اللّهاث خلفَ بريق الرّواية الأخّاذ؟ ما الّذي يدفعهم إلى ذلك؟ أهو حُبّ الشّهرة في الفوز بقلب هذا الجيش الكبير من قُرّاء الرّواية!! أفيكون السّبب هو الجمهور ذاته الّذي رمى بقصائدهم خلف ظهره ولمْ يُولّ قلبه إلا تُجاه آفاق السّرد الرّحيبة؟ أم أنّ الأمر ذاتيٌّ عند هؤلاء الشّعراء؛ وجدوا في الرّواية صورةَ أرواحهم الهاربة من كلّ شيء، والباحِثة عن الغامض والماتع والعازِف على كلّ الأوتار!! هل يُعدّ هذا هروبًا من الشّعر تعبًا من تَبِعاته؟! أمْ أنّه بحثٌ عن الشّعر نفسه الضّائع في السّرد والقَصّ؟! لعلّ الأمر لا يُمكن اختزاله في مقالةٍ واحدةٍ، إذْ إنّه يدخل في منهج التّحليل النّفسي، وهذا المنهج يتطلّب أنْ تقفَ على نصوص (الشّعراء المُتحوّلين) لتعرفَ فيما إذا تخلّصّوا من شعريّتهم في سردهم، أمْ أنّهم ما زالوا يكتبون الشّعر في الرّواية، وأنّ الحدّ الفاصل بين الشّعر والرّواية يكاد يمّحي أو يتماهَى؛ فلا تكادُ تعرفُ حينَ تقرأ نَصًّا إنْ كان هذا شعرًا أم نثرًا؟!

 

إنّ غُموض النّصّ الشّعريّ اليوم، وعقليّة القارئ الّتي تستنكفُ عن استِخدام آليّات التّأويل لفهم هذا النّصّ ربّما يُشكّلان واحِدًا من تفسيرات التّخلّي عن الشّعر واللّجوء إلى السّرد

الشّعر والنّثر صَنعتان كما قال أبو هلال العسكريّ في (الصّناعَتين)، ولكنّ صنعة الشّعر أصعب وأمتن؛ الشّعر يحتاج إلى استعدادٍ ذهنيّ، وعاطِفةٍ فائرةٍ قادِرةٍ على أنْ تُخرِجَ الكلام من أعماق الشّاعر، في حين أنّ النّثر لا يحتاجُ إلى كثيرٍ من ذلك.

 

والقصيدة صورة، ومجازٌ، وكنايةٌ، واستِعارةٌ، وموسيقى، وقافيةٌ ورويّ، ويفقدُ بعضَ روحِه إنْ فقدَ شيئًا من هذه المُقومات، لكنّ الرّواية المعتمدة على تشابك الأحداث والحبكة لا يَضيرها أنْ تفقدَ شيئًا من تلك المُقوّمات أو حتّى تفقدها كُلّها، فالحدث وتناميه وغموض دهاليزه وانتظار انفجاره بعد تعقّده هو ما يُعوّل عليه بالدّرجة الأولى في الرّواية. والشّعر انزِياحٌ عن المعنى في حين أنْ الرّواية ولوجٌ في المعنى، ولا شكّ أنّ الانزِياح مع الحِفاظ على روح المعنى في الشّعر أعقدُ من الاشتِباك معه بشكلٍ شبه مُباشر كما في السّرد. لكنْ هل يُسوّغ كلّ ذلك رَمْي الشّعراء لتلك الشّعلة المُقدّسة في الطّين لتنطفئ!! إنّ هذا هروبٌ وجُبنٌ إنْ صَحّ؛ أمْ أنّ في الأمر شيئًا آخَر؟!

 

إنّ غُموض النّصّ الشّعريّ اليوم، وعقليّة القارئ الّتي تستنكفُ عن استِخدام آليّات التّأويل لفهم هذا النّصّ ربّما يُشكّلان واحِدًا من تفسيرات التّخلّي عن الشّعر واللّجوء إلى السّرد. لكنْ ماذا لو ذهبْنا إلى نهر الشّعر الخالِد لننظر إليه من كثب، ونبحثَ عن الخالِدِ من أبيات؛ ستعثر بلا شكّ – وعلى سبيل المثال مرّة أخرى لا الحصر – على قول زهير بن أبي سلمى:

 

سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ

ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يَسْأَمِ

 

وعلى قول المتنبّي:

وليسَ يَصِحُّ في الأفهامِ شَيءٌ

إذا احتاجَ النّهار إلى دليلِ

 

وعلى قول الشّابيّ:

إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياةَ

فلا بُدّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ

 

 وأنا ضربتُ لكَ المثال الأوّل من الشّعر الجاهليّ والثّاني من العبّاسيّ والثّالث من العصر الحديث؛ لأوسّع دائرة التّدليل، فإنْ أنتَ ذهبتَ لتُعطِي لهذا الشّعر صِفةً؛ فإنّكَ ستجده واضحًا في غير ابتِذال، وبسيطًا في غير هَلْهلة، وسهلاً في غير تكلّف. لكنّه مع كلّ ذلك عاشَ كلّ هذه السّنواتَ وعبَر كلّ هذه الأزمنة والأمكنة واصِلاً إلينا، وخالِدًا لأجيالٍ ستأتي؛ فهل لو عاد الشّعر إلى هذه النّماذج سيعودُ إليه قارِئُه؟! إنّه التّحدّي الكبير أمام الشّعراء المُتحوّلين ولديهم الإجابة أو القُدرة عليها. وهي بلا شكّ من جهةٍ أخرى ردّةُ فِعل على إعراض الجمهور عن نماذجَ من الشّعر الّذي لا هُويّة له وقد شاعتْ في عصرنا من مثل: "اخضوضر النُّحاس". أو: "سقطتْ وردة فنبتَتْ سمكة"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.