شعار قسم مدونات

عن أصحاب القلوب الخارقة

blogs - كبريت
كنت في وقت ما أكتب كثيراً حول النظريات والتفسيرات الفلسفية للأحداث الجارية من حولنا، كنت أعتقد بأنني أفعل ذلك لأنني بهذه الطريقة أساعد بشكل ما على فهم ما يجري حولنا من أحداث، ولكن في الواقع لم يعد هذا الإحساس موجوداً، وبدأت أقتنع أن هذه المساحة الموجودة على الفيسبوك والتي نعتقد أننا من خلالها نستطيع إصلاح العالم ليست سوى متاهة ضعنا فيها بشدة.

بعد الثورة التونسية وشقيقاتها كلنا أصبحنا نعتقد أن هذا المكان الافتراضي يوفر لنا فرصة استثنائية، البعض استخدمها لتحقيق ذاته وللإحساس بشي من الأهمية، وآخرون استعملوها للنفع المادي، وغيرهم لما يسمونه "بالإصلاح" ولكن المشكلة هي أننا فعلاً أغفلنا حقيقة أن دور هذه الأداة في هذه الثورات كان أشبه بعود الكبريت فقط، وعود الكبريت عندما يحترق في الهواء فإنه لا يخلف سوى عمود من الدخان يتلاشى في ثوانٍ وتبقى قطعة فاسدة من الخشب قد يستخدمها البعض ليخرج بقايا الطعام من بين أسنانه إن استدعى الأمر، ولكن ذلك هو أقصى ما تؤل إليه تلك الشرارة.

جولة بسيطة في شوارع أي مدينة من مدن أي من بلدان الثورات ستجعلنا ندرك الفرق الشاسع بين جمهورنا الوهمي وبين الجماهير الحقيقية التي ندعي أننا نسعى إلى التغيير فيها -مفترضين أننا لسنا بحاجة إلى من يغيرنا- والتي في واقع الأمر عندما نجد الفرصة للاحتكاك بها سنعرف كيف أنها هي التي ستغير فينا وليس العكس.

كنت أتجنب الذهاب إلى أي موضع قد أرى فيه امرأة تجلس برضيع على ناصية الطريق، أو طفلة تبيع المناديل، أو رجلاً يجلس وبجانبه برميل القمامة وقد طفح بما فيه. كنت أختنق وأكره نفسي والعالم.

يمتعضون كثيراً عندما يتحدث أحد عن العمل على أرض الواقع وأن وقت الجدال لا بد ينتهي وأن التنظير والتحليل والتفسير ومحاولة التغيير من خلال الشاشات ولوحات المفاتيح لن تنجز الكثير، البعض يمتعض لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يجيد فعله، وآخرون لأنهم يعرفون أن الحل الآخر سيكلفهم الكثير من الجهد والوقت، وغيرهم لأنهم منتشون بسمعة المثقف أو الساخر، أو الثائر التي أصبحت تلازمهم، فقط المخلصون حقاً هم الذين ينامون وهم يحسون بالتقصير والأسى لعجزهم.
 

أنا نفسي أضعف أمام هذه المقارنات، أسأل هذا السؤال كثيراً: ماذا يفعل الناس ببعض الكلمات والكثير من الفلسفة والقيل والقال، وأنسى أنني أجبت عن أسئلتي هذه منذ زمن. أليس فساد المتكلمين واضمحلال المتفلسفين والعمى عن الحقائق هو ما أوصلنا إلى هنا؟ هو وسنوات الاستعمار والتلاعب الخارجي الطويلة.
 

عندما عشت في مصر، عرفت لماذا يتبلد الناس، فلولا التبلد لما استطاعوا تحمل الحياة التي يعيشون. ينظر البشر إلى بعضهم من فوق طبقات، يقولون: إيخ.. يعيشون بين الحيوانات، أو بين أكوام القمامة، أو يأكلون من المكان الفلاني، أو أو.. وليس في مصر فقط ولكن هذا ما رأته عيني. الناس اعتادوا وعوّدوا أنفسهم، ليس الفكرة في أنك إنسان متحضر وراقٍ بالطبيعة، بل لأنك ولدت وعشت واعتدت هذه الحياة، أتحسب أن أياً ممن تنظر إليه بحسرة أو قرف كان سيبدو هكذا لو أن الله شاء أن يولد في عائلتك وتولد أنت لأبويه؟
 

أذكر أنني لم أكن أستطيع النظر طويلاً، نعم كنت أتجنب الذهاب إلى أي موضع قد أرى فيه امرأة تجلس برضيع على ناصية الطريق، أو طفلة تبيع المناديل، أو رجلاً يجلس وبجانبه برميل القمامة وقد طفح بما فيه. كنت أختنق وأكره نفسي والعالم. وكأنني لم أشاهد الأخبار يوماً ولم أذهب إلى عمّان حيث تغرق المخيمات في أمطار الستاء وتغزوها القمامة والناس يتقون البرد بالصفيح. وكأني لم أقرأ في التاريخ.. وكأني لم أسمع القصص.
 

جئت إلى أستراليا ورأيت المشردين يفترشون الأرض هنا أيضاً، والعجزة يقطنون الدّور هنا أيضاً، وأطفالاً يحتاجون من يعولهم، ورأيت الرجل الأبيض ينتزع أطفال "الآخرين" لأنهم لا يحسنون التربية ويقذف بهم في دوامة المؤسسات الحكومية التي لا تعرف شيئاً عن بيئتهم وثقافتهم. رأيت الناس يضيعون في الشوارع تحت سطوة الخمرة، ويمشون في الحارات يصرخون ويحاربون طواحين الهواء.
 

ولو ذهبت غداً إلى المجر، أو إلى موزنبيق، أو إلى بوليفيا.. فسأجد البشاعة تخرج في وجهي بكل صورها الممكنة. وسأحاول أن أبتعد، أن أنظر إلى الناحية الأخرى، أن لا أرى كثيراً، يكفيني أن أعرف، أو أطالع الشاشات أن أرقب من بعيد. وكأني لم أقرأ في التاريخ.. وكأني لم أسمع القصص.
 

جهودنا تتكاتف معاً وأن لكل دوره، ولكن لا أجدني قادرة على المساواة.. ربما لأنني أدرك أن ضعفي يمنعني من القيام بما تقومون به أنتم، وربما لأنني أيضاً أتأثر بالتغيير المادي أكثر من التغيير المعنوي.

لماذا إذاً تلك السذاجة؟
لا أعرف.. ستقولون: كل إجاباتك تبدأ بلا أعرف، فماذا تعرفين إذاً؟
أعرف أنني لا أستطيع أن أتعامل مع الواقع المجرد، الذي ليس بيني وبينه حجاب. أعرف أنني أضعف من أفعل شيئاً على أرض الواقع، أعرف أنني لا قدرة لي على جبر قلوب الآخرين لأن كسرهم يعجزني. أعرف أن كثيراً أصبح ينظر من بعيد أيضاً لأنه رأى كيف سقط الذين مدّوا أياديهم وحاولوا أن ينتشلوا الغارقين في الوحل. هل عدت مرة أخرى أصنف الناس إلى منقذين وهالكين؟ منقذون في الشوارع وخلف الشاشات، وهالكون في الحواري وبين الصفحات.
 

فإن كنت منهم، أولئك الذين يستطيعون أن يمشوا في الشوارع فاتحين أذرعتهم وأعينهم، ينظرون إلى البشاعة دون أن ينكسروا أو يخافوا، لا بلادة ولا غلظة، ولكن قوة وصلابة، إن كنتم منهم فلكم منّي كل التحية. أعرف أنكم ربما تتعبون أحياناً وتقولون: متى ينتهي عملنا.. لماذا تتحسن الأمور؟ ما النفع إن كنا ننقذ إنساناً اليوم سنعالج مشكلة اليوم ونكتشف عشرة في الغد؟ لولا ما تفعلونه لكان المجموع ألفاً بدلاً من مئة، لولا أنكم تغلقون الباب في وجه القبح كل يوم لكان احتل المكان تماماً وتركنا جميعاً في الظلام.
 

أعرف أن الأمر ليس سهلاً، أن صبياً أو فتاة يلقون نكتة سمجة فينهال عليهم الناس، وأنتم تفنون أعماركم ولا يراكم أحد.. وأعرف أنكم لا تريدون لأحد أن يراكم بل أن يرى وجوه المعذبين في عيونكم، وأن الناس يمرون بكم مرور الكرام ولا يكترثون. ولكن نحن نرجوكم أن لا تتوقفوا، لا نستطيع كلنا أن نحمل قلوباً ترحم بقوتها كقلوبكم، ولا عزائم تداوم برأفتها كعزائمكم، آخر ما نقدر عليه بضع كلمات نرصها، أحياناً تحوي بعض الجمال وأحياناً تبدو أقل من عادية. أريد أن أقول بأن جهودنا تتكاتف معاً وأن لكل دوره، ولكن لا أجدني قادرة على المساواة.. ربما لأنني أدرك أن ضعفي يمنعني من القيام بما تقومون به أنتم، وربما لأنني أيضاً أتأثر بالتغيير المادي أكثر من التغيير المعنوي، فأنا أرى ما تفعلون ولكن لا أرى أثر كلامي على من يقرأ.
 

في كل الأحوال، هل لنا أن نطلب منكم أن تستمروا؟ أن تدفعوا هذه الفاتورة عنّا جميعاً وتظلوا واقفين؟ ولكم منّا أن نعمل حتى نستطيع في يوم ما أن نقول: خلّوا عنكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.