شعار قسم مدونات

المغاربة

blogs رواية المغاربة

محمد الغافقي، شاب من مدينة بني ملال المغربية، أصيب بالعمى في بداية شبابه، ولو أنه كان عمى متوقعا بعد معاناته الطويلة مع مرض ألم بعينيه منذ سنوات طفولته الأولى، ولم تنفع معه نباهة الأطباء ولا بركة الأولياء، يشاطره العطب شقيق أعرج أصيب في معارك الصحراء ويناديه محمد طوال الأحداث بالعسكري، ليتعاون الأخوان على مجابهة تناقضات الحياة والعيش في بلد يدعى المغرب، بالكثير من التأمل والانتقاد، وربما السخرية أحيانا.
 

يقع محمد الأعمى في غرام صفية، خادمة الجيران، والتي عشقها بعدما شاءت الصدف (أو ربما الأقدار) أن يستمع لشدوها الأمازيغي اللكنة وهي تستحم في سطح المنزل الملاصق لمنزله، متخيلا وقع قطرات الماء على جسدها البض الذي لم يره أصلا، لتبدأ سلسلة من الأحداث المتلاحقة التي انتهت بما قد لا يتوقعه أحد!
 

إنها رواية "المغاربة"، للكاتب المغربي عبد الكريم جويطي، صدرت عام 2016 عن المركز الثقافي العربي، ووصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) دورة 2017، وكان للقراء دور حاسم في دفعها إلى تصدر النقاش الأدبي المغربي حاليا، لعدة أسباب…
 

المغاربة، رواية الغوص المحكم في فهم الذات والنفس المغربية المتأرجحة بين الخوف من المخزن والتعود على الهزائم والانكسارات، بين صنع المكائد ومهادنة القوي والكذب على التاريخ، عبر هذيانات مغربية متناثرة هنا وهناك، وسرد لسيرة الباشا بوزكري الذي حكم بني ملال بالحديد والنار والتعاون الصريح مع المستعمر، تاركا زمام الأمور فيما بعد لابنه عبد السلام وحفيده طه المتشبع بعشق الشرق بعد إقامته الطويلة في مصر، مع عرض لمحتوى اللقاءات الغريبة التي جمعت الباشا طه وخادمه الغامض فرح بمجلس العميان الذي تم اختيار أعضائه بعناية شديدة، ولغرض لا يعلمه إلا "أصحاب الشأن" !
 

صحيح أن اختيار عنوان "المغاربة" للنص كان مستفزا لأي قارئ لم يطالع الرواية بعد، لكنك بمجرد الدخول إلى عوالمها ستفهم السبب الحقيقي لذلك.
 

جمع أسلوب الكاتب في الرواية بين القوة التي تدفعك إلى البحث عن معنى الكثير من المصطلحات في المعجم، والسلاسة التي تجعلك تقرأ بانسيابية وقدرة على التقاط مجموعة من الأفكار والأحداث التي تخدم النص

كثيرة هي الأعمال الفكرية والتاريخية المتخصصة التي تناولت المغاربة كشعب متفرد بالدراسة والتحليل من خلال الربط بين الحاضر والماضي التأريخي، ابحث عن "مجمل تاريخ المغرب" و "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية" لعبد الله العروي مثلا (الأمثلة لا تعد ولا تحصى طبعا) وستجد ما يفيدك.
 

ولكن، من هذا الذي أخذ على عاتقه مهمة تشريح المغاربة (من الألف إلى الياء) روائيا، ونحن نعلم جيدا بأن فن الرواية (شئنا أم أبينا) هو الأقرب إلى العامة والأقدر على تمرير الرسائل بالكيفية المناسبة؟
 

قد تجدون (لا…ستجدون) في هذه الرواية الجواب عن هذا السؤال، وأيضا السبب الذي دفع الكاتب إلى اختيار هذا العنوان!
 

بالانتقال إلى اللغة، هل نجح الكاتب في تقديم عمله بلغة قوية؟

نعم، وإلى حد بعيد، فقد جمع أسلوبه بين القوة التي تدفعك إلى البحث عن معنى الكثير من المصطلحات في المعجم، والسلاسة التي تجعلك تقرأ بانسيابية وقدرة على التقاط مجموعة من الأفكار والأحداث التي تخدم النص، وبسهولة تامة، ما يثبت بأننا هنا أمام "قارئ حقيقي" أكسبته الخبرة والقراءات الطويلة والأساليب المختلفة قدرة على خلق أسلوبه المتفرد، ورغم كثرة الصور البلاغية في العمل، إلا أنني أعدت قراءة المشهد الذي وصف فيه محمد وقوعه المفاجئ في غرام صفية بمجرد سماعه لوقع قطرات الماء على جسدها، أكثر مرة، من شدة إعجابي باللغة المتقنة التي وظفها الكاتب هنا.
 

بالانتقال إلى بنية العمل، سنجد بأن الكاتب اعتمد على التجريب، وإدخال تقنيات جديدة على روايته، أولها بدء العمل من نهايته، كإشارة ربما على العود الأبدي على البداية، كما أنه زاوج بين زمنين في روايته، بين ماضي المغرب المتشعب على عدة أصعدة، والحاضر الذي مثله محمد الغافقي وشقيقه العسكري والباشا طه وصفية والآخرون، كما أنه أدخل مقتطفات شعرية، ومقتطفا مسرحيا من رواية هاملت الشهيرة لشكسبير، ثم كانت "الهذيانات المغربية" ضربة موفقة مرر فيها الكاتب مجموعة من الرسائل التي أجبرتك على قراءة بعضها أكثر من مرة.
 

بالمرور على شخصيات العمل، نجد بأن الكاتب صورها بإتقان، بداية بمحمد البطل المحوري، مرورا بالعسكري ومجلس العميان والباشا طه وصفية والآخرين.
 

صحيح أن ظروف الرواية أجبرتنا على الاقتراب أكثر من شخصية محمد (الراوي)، الأعمى وعلاقته المضطربة بالعالم، إلا أنني شعرت بنفسي منجذبا أكثر إلى العسكري، هذا المنسي المتناقض الذي أعطبته الصحراء جسديا وروحيا، فعاش التيه والعدمية، وكاد أن ينتحر، ثم جرب التدين وبعده السكر والعربدة والانعزال والغرق بين الكتب، وربما الكتابة، دون أن يعثر على نفسه!
 

"المغاربة" عمل روائي لا بد وأن يترك بصمته في أعماق كل من قرأه من المغاربة (وربما القراء العرب أيضا) فهو يخاطبهم بلهجة قاسية، خالية من النفاق، عمل يرج أجساد وعقول المغاربة ويدفعهم إلى إعادة التفكير في حقيقتهم وحقيقة أعطابهم النفسية والروحية

الرمزية حاضرة في الرواية بشكل واضح، والصور المعبرة عن ذلك كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها هنا ما دام الهدف تشجيع القراء على مطالعة الرواية واكتشاف أسرارها بأنفسهم، إلا أنني أعجز عن المرور من هذا الجانب دون الإشادة برمزية مقبرة الجماجم ودلالاتها العنيفة المرتبطة بتاريخ المغرب الأسود وعلاقته المضطربة وربما الهزلية بالحاضر.
 

قلت مرارا وتكرارا بأنني أحب الأعمال الروائية التاريخية، لأنني ألمس فيها حجم المبذول في البحث والتوثيق ومزج الواقع بالخيال، إلا أنني لا أملك إلا التصفيق بحرارة أمام "المغاربة" لأنني لمست اشتغالا واضحا على المصادر التاريخية الحاضرة بقوة في العمل، وربما تخيلت الكاتب وهو جالس في المكتبة أو منزله، محاطا بجبال من الكتب والمراجع التي أفادته في صياغة النص، بل وحتى في بعض المقاطع العابرة، كحديثه عن الحب والتضحية الكربلائية، تشبيهه المرتبط بحروب الردة وفتنة مقتل عثمان وحروب الجمل وصفين والتحكيم والخوارج ودهاء معاوية، تشبيهه للجدار الفاصل بين محمد وصفية بجدار فيينا المستعصي على الجيش العثماني، التفاصيل المرتبطة بسيرة طه حسين "الأيام" وعلاقته بزوجته الفرنسية، المعلومات الفنية المرتبطة بأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، كلها أثبتت لي بأنني أمام كاتب متمرس، وقارئ موسوعي أيضا.
 

"المغاربة" عمل روائي لا بد وأن يترك بصمته في أعماق كل من قرأه من المغاربة (وربما القراء العرب أيضا) فهو يخاطبهم بلهجة قاسية، خالية من النفاق، عمل يرج أجساد وعقول المغاربة ويدفعهم إلى إعادة التفكير في حقيقتهم وحقيقة أعطابهم النفسية والروحية التي شكلتها سنوات وربما قرون طويلة من الشد والجذب بينهم وبين من يمسك بزمامهم في السلطة.
 

(أي تشابه بين هذا الكلام في الفقرة الأخيرة وبين المتغيرات السياسية التي شهدها المغرب مؤخرا هو تشابه مقصود وليس من قبيل الصدفة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.