شعار قسم مدونات

دموعٌ على أنقاضِ وطنْ

blogs - algeria2

صحيح أنّي لست من جيل الستّينيات ولا الخمسينيات ولا حتّى من أعلام الدّولة لأقول كانت الجزائر وكان شعبُها.. لكنّي أملك من الوعي ما يمكّنني من أن أميّز بأن الوضع يتأزّم بشكلٍ ملحوظ، لا يبصره إلاّ من لم يرغب بذلك.

 

المشكلة أننا مازلنا نلعن الظلام بدل أن نشعل النّور، نرمي أوزارنا على وُلاة أمورنا رغم أنّ الواقع أمامَنا ويمكننا أن نصنع بدل الشيء ألفًا، لنغيّره.. لا تقل لست مسؤولاً الحكومة فعلت. لا والله ليست وحدها! تلك الحكومة أساسًا ما هي إلاّ أشخاص كانوا شبابًا مثلنا، عاشوا بينَنَا ومثلنَا.. لكن ربّما نشأوا نشأة خاطئة، أو لم يفهموا الحياة كما يجب فأدارت الحسابات الماديّة رؤوسهم عن كلّ هذا. وما يدرينَا ما كنتَ أنت بصانعٍ إن كنتَ مكانهم!

 

ما ذنب ذاك الطّفل حتّى تحمّله فقرك فينمو جاهلاً، محرومًا من أجمل نعمِ الحياة "العلم"! لا ذنبَ له سوى أنّه وٌلد في وطنٍ سكانه صمّوا آذانهم عنه وعن أمثاله..

يا أخي إنّ الوطن ينزف منذ سنوات وسنوات، يئنّ مستنجدًا، يستصرخُنا.. إن استوقفته مرّة تسأل: "ما بالك؟" لا شكّ أنّه سيقول: «قِطعٌ منّي احتضنتها حتّى نمت، ثمّ تمرّدت.. طعنتني وانصرفت". وما أقسى أن تكون الطّعنة من قريب، لو كان غريبًا لكان أرحم! لكنّنا صممنا آذاننا وانصرفنا كلّ يقول نفسي، نفسي.. خائفون، من ماذا؟ من الموت؟ هو قادمٌ لا محالة، فخيرٌ لكَ أن تموت كريمًا على أن تموت مُهَانا. أتدري، إنّ الوطن الذي أتحدّث عنه ليس فقط الأرض والزّرع، ولا تلك الحدود التي رُسمت على الخرائط لتعلن قيام دولة عظيمة مثل دولتنا، شتّتها سادتها فصارت هيكلاً، بل هو كلّ هذا والشّعب! نعم، هو الشعب أيضًا، ولكم يؤسفني حال الفرد فينا كثيرًا.

 

هذا الشّعبُ هو أطفالٌ لم يكملوا تعليمهم فقط بسبب الفقر رغم أنّ التعليم مجّاني، لكن قد ترغمهم الظروف على العمل لإعالة أسرهم.. ياه ما ذنب ذاك الطّفل حتّى تحمّله فقرك فينمو جاهلاً، محرومًا من أجمل نعمِ الحياة "العلم"! لا ذنبَ له سوى أنّه وٌلد في وطنٍ سكانه صمّوا آذانهم عنه وعن أمثاله..

 

هو طاقات شبابيّة حاربوا الحياة والمجتمع فقط لينالوا فرصة ولو بسيطة ليثبتوا أنفُسهم وقدراتهم، ثمّ ماذا؟ ثمّ ماتوا على هامش الطّموح وهم اليوم جثثٌ تمشطُ الشّوارع بلا روح.. فقط لأنّهم ليسوا أبنَاء "فلان" و"عِلاّن" لِتَمُدّ لهم الدّولة تأشيرة العبور إلى صالات الفرص وظلّوا في ساحات الحياة يصارعون.. ماتوا بداء "فقرِ النّسب"!. وشبابٌ غرقوا في مستنقعات الحرامِ ولم ينتشلهم منها أحد، فقط لأنّ منّا من احتقرهم ومنّا من لعنهم ومضى ومنّا من مرّ كأن لم يرهُم قط. أصاب العُجب أنفُسنا، فأفلتناهم!

 

هو مجتمعٌ لا يزال يتغنّى بالذّكور من أبنائهم وأحفادهم، ويعتبر الإناث منهم خطيئة أو لعنة أصابتهم وستطاردهم طيلة حياتهم، أو حتّى عالة على أكتافهم لن يتردّدوا في تزويجهنّ لأوّل خاطب. يحرمونهنّ من أتفه حقوق الحياة بل ويجعلون منهنّ "ماكينات" طبخٍ وغسيل ليس لهنّ أيّ حقٍ في الحياة. لابدّ أنّك تتساءل كيف حقًا لمجتمعٍ مثل هذا أن يوجد مثله بينَنَا، في بلدنَا وفي هذا الزّمن؟ نعم يوجد مثلهم وأكثر… حقيقة، شفقتي على هذا النّوع من المجتمع بحدّ ذاته أكثر من شفقتي على الفتيات أنفسهن، ولا داعِي لذِكرِ السّبب.

 

أقسمُ أنّي أبحثُ كلّ يومٍ في وجوه المارّة عن شيءٍ يقول لي "أنّ الوطن مازال بخير وسيكون"، عن أناسٍ يزرعون جميلاً لأنّهم يعلمون أنّ الجميل لا يثمِر إلاّ جميلاً.. لكنّي أحيانًا أيأس وأقول "لم تبقى عيشة في هذا الوطن"

هو أناسٌ لا ذنب لهم سوى أنّهم حاربوا الفساد ونطقوا بالحقّ، فأُعدِمت حروفهم بين حافتيْن، حافّة السكوت أو حافّة المنفى.. فمن رضخوا صاروا كشيطان أخرسٍ ومن ثاروا للحرفِ، نفيت أجسادهم على أعتاب المطارات. نعم، فقط أجسادهم! فكيفَ لهم أن ينفوا الكلمات وهي تُنطقُ هُنا وهُناك، يسمعُ صداها في كلّ مكان.. وفي مجمَلِنَا نحنُ ننقَسم إلى ثلاث فئات: فئة خانعة راضخة بهذا الواقع الذي نعيشه، فئة تلعَنُ وتسخط ويوم الجدّ لا تجدُ منهَا أحدًا وفئة تنهش لحمَ الوطَن نهش الكلاب، تحت شعار "أحرام علينا حلالٌ عليهم؟ فلننهش مثلَما ينهش ولاّتنا ولو القليل".. لا تسألني عن الفئة الثّائرة للحقّ فقد سبق وقلت أنّه تمّ إعدام حروفها على حافّة المنفى، صحيحٌ أنها ليست كلّها لكن أبرز الأصوات فيها، تلكَ التي تعرّي الباطل وتصرخ مستنكرة له دون حجاب.

 

ذاك الشّعب، هو أرواحٌ تزهقُ لنقص إمكانيّات طبيّة أو ماديّة أو حتّى نتيجة استهتار! تلك الرّوح من سيحملُ ذنبها غدًا؟ جميعُنا.. هو عائلات ولدت، عاشت وماتت في "بيوت القصدير" لم يملكوا أبسط وسائل الحياة، لم يذوقوا أكلة صحيّة ولا حتّى شربوا ماءً نقيًا. عاشوا عيشة حقيرة ثمّ ماتوا ولم يَسمع صوتهم أحد. هو.. هو.. وهو.. ستنفذُ الحروف ولن أحصي عدّهم، لكن اِعلم أنّنا جميعُنَا مسؤولون عنهُم، لأنّنا عاجزون عن التّغيير، راضخون بالواقع بل وحنينا له ظهورنَا ليعتليها ويتجبّر.

 

أتساءل كلّما تذكرت تلك المقولة "شعبٌ فقير على أرضٍ غنيّة" هل مازالت أرضنَا غنيّةً حقًا؟ لا أعلم، ويا ليتني أعلم! أقسمُ أنّي أبحثُ كلّ يومٍ في وجوه المارّة عن شيءٍ يقول لي "أنّ الوطن مازال بخير وسيكون"، عن أناسٍ يزرعون جميلاً لأنّهم يعلمون أنّ الجميل لا يثمِر إلاّ جميلاً.. لكنّي أحيانًا أيأس وأقول "لم تبقى عيشة في هذا الوطن"، وتضيق بي الدنيا بما رحبت، ثمّ أتدارك نفسي وأنا ألمحُ الكثير من الأمل في عيون أطفالٍ ربّما لم يذوقوا يومًا معنى الرّخاء، لكنّ تلكَ الابتسامة البريئة لا تفارق ثغورهم. أستعيد إيماني وأمضي، وأنا أرددّ "ما زال على الأرض ما يستحقّ الحياة."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.