شعار قسم مدونات

ذاكرة الحصار المر (2)

blogs كنيسة المهد

في ذاكرة الاجتياح المر، كانت "لما الأرض تنادي رجالك" تتعالى صيحاتها عبر التلفزة المحلية، فتترسّخ معاني الصمود وتعلو بها همة المكبّلين بالقيود والحصار و "جمّالنا ياما حمل" تحكي عن النكبات والتحدي والشموخ وبُحّ صوت "جوليا" وهي تنادي على الملايين وتستصرخهم بوجع الأرض، أما "على جناح كل غيمة مسافرة" فكانت تحمل مع الغيوم رسائل الشوق إلى بيت المقدس غير بعيد من هنا، تحمل السلام من بلد السلام إلى بقاع الوطن التي ينهكها الجرح والألم.

"ما بين "كنيسة المهد" ومسجد "عمر بن الخطاب" ساحة المهد وهو كل ما تبقى من محافظة بيت لحم يومها بلا أغراب يدنسون طهرها، إذ امتلأت الحواري والأزقة بالجنود، أما جنود الأرض المخلصين الذين رابطوا فيها منذ نعومة أظفارهم واحتشدوا فيها مطاردين مقاتلين لأشهر قد خلت من قبل وكانت آخر القلاع التي يتحصنون بها فقد بدا الشتاء قاسياً عليهم يخطّ لهم طريقاً من الوجع على أعتابها، فقد تزاحموا بعد انسكاب الرصاص والصواريخ كالمطر المنهمر من السماء الملبّدة بالغيوم والطائرات ولوجاً إلى حيث ولد المسيح – عليه السلام، يتحصنون ببعض الدفء تحت صخب العالم الآخر خارج أسوار الكنيسة، صخبٌ وضجيج حوّل مدينة السلام إلى مرتع يدوس طهرها أغراب قدموا من أقاصي الأرض، فانتهكوا كل محرم، وداسوا تحت أقدامهم كل شيء، أحرقوا المسجد والكنيسة وزرعوا الحقد في حديقة السلام بذوراً تتعمق جذورها يوماً بعد يوم ".
 

أربعون يوماً ومئات المحاصرين داخل أروقة الكنيسة لا تغفو أعينهم مرابطين يقظين يحمون بصدورهم وأجسادهم كنيسة المهد من أن تكون لقمة سائغة لذلك الاحتلال الأرعن الذي كان يتحيّن الظروف والأوقات لاقتحامها

أربعون يومًا من الحصار بدأت مراسمها الموشحة بالسواد بشهداء "آل عابدة" تستشهد الأم والابن فيما يبقيان مضرجين بدمائهما لأكثر من 24 ساعة والابن الجريح الآخر يتوسد دماءهما والدموع، في مجزرة بشعة لا تقل بشاعة عن كثير من المجازر غير أنه لم يُكتب لها التوثيق وضاعت بين ركام وحطام الحصار والاجتياح ، تتكرر المشاهد، يطال الرصاص مَن هم داخل الكنيسة فيرتقي الأول والثاني وصولاً إلى تسعة من الأقمار قضت بالرصاص في البقعة المقدسة، في كل ليلة من تلك الليالي يتجدد التهديد والوعيد باقتحام الكنيسة يحاولون مرةً وأخرى ويفشلون، ونحن من شبابيك المنازل نرقب تلك اللحظات وأزيز الرصاص يسلب المتعبين لذة النوم بعد يوم حافل بالمداهمات والتنكيل والملاحقة.

أربعون يوماً ومئات المحاصرين داخل أروقة الكنيسة لا تغفو أعينهم مرابطين يقظين يحمون بصدورهم وأجسادهم كنيسة المهد من أن تكون لقمة سائغة لذلك الاحتلال الأرعن الذي كان يتحيّن الظروف والأوقات لاقتحامها، يأكلون العشب ويقتاتون أوراق الليمون، ويتجرعون الألم أسوةً بعشرات الآلاف الذين باتوا خارج أسوار الكنيسة يقاسمونهم ذات المصاب. ينتظرون لحظة الخلاص في مشهد كانت ملامحه ترتسم وتتهيأ منذ البداية، إما أن يسلّم الرجال أنفسهم أو تبقى المدينة رهينة تحت سطوة الجلاد، يأبى الرجال الخضوع والتسليم، غير أن ما خبأته الأيام في جعبة الدخلاء أفصحت عنه اتفاقية دبّرت بالخفاء لتعلن انتهاء الحصار، و"نفي" المحاصرين.

بدأ الحصار يتفكك، بدأ الأهالي يقتربون شيئاً فشيئاً علّهم يتنسمون رائحة الأحباب، يحتفظون بعبيرها، لحظات الختام القاسية لخّصتها دموع سخيّة ذرفتها عيون الأمهات يرقبن أبناءهن من على أسطح المنازل على بعد مئات الأمتار يلوّحن بالشالات والأعلام، تزاحمت الكلمات والدمعات أما الألسن فلم تكن إلا لتلهج بالدعاء بأن لا يطول الغياب. وعلى أسطح المنازل بدأ الصراخ والعويل عندما خطى أول مقاوم من باب الكنيسة باتجاه ساحة التفتيش والمغادرة وتبعه الآخرون، وغادر المقاتلون تنقل صورهم شاشات التلفزة، غادروا المكان وسط زخات المطر الحانية، بدأ الحصار بالمطر وانتهى بالمطر، وما بين البداية والنهاية حكايا رواها الشهداء بدمائهم ضمّخت ترب مهد المسيح وكللّت وجوه المجرمين الصامتين الهالكين بالعار والشنار، للمبعدين الغائبين الحاضرين منّا سلام، للشهداء، وكلكم إليها عائدون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.