شعار قسم مدونات

تعالوا أحدثكم قليلاً

blogs صبرا وشاتيلا

أحياناً ينتابني إحساس سيدة عجوز في عقودها الأخيرة، تريد أن تجلس في ركنها المحبب ترتشف الشاي بالنعنع في أكوابها الزجاجية أو تلك البنية التي تميل إلى البرتقالي الشفاف. تملأ الإبريق عن آخره وتستند إلى الحائط بانتظار القادمين. ثم ما أن يأتيها الفوج حتى تبدأ بالحديث عن كل شيء، تعود بالذاكرة إلى الوراء.. وكأنها تؤكد لهم أنها عاشت حياة غير هذه التي يعرفونها عنها.. أو تؤدي واجبها ككبسولة زمنية تبلغ الأخبار لمن كانوا في علم الغيب حينها.. أتقمص تلك السيدة الآن وأحكي لكم..

 

أقدم ما تسترجعه ذاكرتي اليوم هي بضع خيالات منذ كنت في الثالثة من العمر، ثم تتوالى بعدها ذكريات الطفولة المبكرة من إخوة وأخوات ومدرسة وحي وجيران وزيارات قصيرة إلى فلسطين.. وقد مررت كما مرّ أغلبنا بالإحساس بالاضطهاد من كل شيء وكل أحد، والشكوى الدائمة بأن لا أحد يفهمنا ولا أحد يقدر أحلامنا وطموحاتنا. لا أذكر تحديداً متى بدأ وعيي بالعالم الكبير يتشكل، وتوقف عن التركيز على العالم الصغير من شجارات في المدرسة، أو تمركز الحياة حول العلامات والمدرسات، أو التعرض للسخرية من الطالبات الأكبر سناً، أو التوبيخ من المعلمة، أو المصروف الشحيح، أو الزي المدرسي أو التفرقة تجاه "المقيمين من غير أهل البلد"..إلى آخر ذلك مما اصطُلِح على تسميته لاحقاً بالتفاهات. إلا أنني لا أعتقد أنه اصطلاح مناسب، لأن أول معرفتي بالظلم، والعنصرية، والكبت، والإحساس بالقهر قد تشكلّت في تلك اللحظات وفي تلك المواقف.

 

 لا أذكر متى بدأ إدراكي لحقيقة أنني من فلسطين وأن فلسطين أرض محتلة، ولكن أول ما أذكره حول النكبات التي لحقت بنا كانت أحداث البوسنة والهرسك، لم أكن أعي تماماً هناك أيضاً ما الذي يحدث، كنت في الثامنة، كل ما أذكره أن المذيع بدا عندها حزيناً كئيباً على وشك البكاء وهو يحكي عن ما يحدث "لإخوتنا وأخواتنا" في البوسنة، ثم يأتي بعد ذلك شريط مسجل يعرض صور أشلاء تنقل من كومة على الأرض إلى سيارة نقل، أذكر أني شاهدت عندها طفلاً أو طفلة رضيعة في لباس أبيض ولكن بلا رأس..كانت الصورة صادمة لي ولكنني لم أفهم، بدت أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.. أذكر أنني في سن صغيرة أيضاً تقارب هذه السن كنت شاهدت فيلم رعب كانت فيه مشاهد مماثلة لأناس يتحولون إلى مسوخ تقطع رؤوسهم ولكنهم يستمرون في الحركة وكأن شيئاً لم يكن.. وعلى الرغم من أن والدي كان جالساً حين عرض الفيلم إلا أنني أصابني الخوف منه وبت ليلة عصيبة.. ولكنني لا أذكر خوفاً شبيهاً جاءني بعد أن شاهدت صور البوسنة.

 

نتعلم السيرة وندرس عام الحزن وأبكي لشدة المصاب.. ثم نعرف أنه ضُرب وأوذي بالقمامة والقاذورات، فيمتلئ القلب قهراً وغيظاً، ثم نعرف أكثر كيف أصيب وهو يقاتل ويفقد أسنانه.. وكيف يبكي أمه.. وكيف يُقتل عمه.. وكيف يموت..

شيئاً فشيئاً ولأن والدي كالكثير من الفلسطينيين ينام ويصحو وهو يشاهد الأخبار، أخبار فلسطين تحديداً، وربما يستقطع بعض الوقت ليشاهد مع أمي إحدى التمثيليات البدوية في صحراء الشام لأنها تذكره بحديث جدي وبعض عاداتنا، شيئاً فشيئاً بدأت تتكشف لي نكبات جديدة حدث بعضها قبل أن أولد وبعضها عندما كنت غير واعية والآخر وأنا مدركة لها.. درسنا النكبة وشاهدنا الصور، ثم جاءت تلك العجوز على التلفاز لكي تحكي كيف قتلوا أفراد عائلتها وعدتهم فرداً فرداً " قتلوا أبوي، وقتلوا إمي، وقتلوا أخوي، وابن عمي فلان ومرته، وعمي فلان ومرته، وأبو فلان ومرته…." وتستمر في التعداد وتحكي عن زوجة فلان التي قتلوها وهي حامل ثم بقروا بطنها وأخرجوا الوليد، وتحكي وتحكي إلى أن تصل إلى نقطة النهاية فتبدأ بالبكاء وهي تردد أغنية تحكي كيف انكسر ضهرها بموت أخيها وعزوتها.. فأبكي ونبكي كلنا.. عادة ما كنا نسخر عندما يبكي أحدنا أمام التلفاز.. ولكن لم يضحك أحد حينها..

 

ثم تأتي أخرى لتحكي عن صبرا وشاتيلا وكيف ذبح الناس كالنعاج وتركت أجسادهم في الشوارع.. ثم الحديث عن حرب الخليج الأولى.. وأسأل أمي هل كنت هناك، فتجيبني بنعم ولكنها تقول بأنهم كانوا بعيدين عنها.. ثم يأتي الحديث عن حرق مسجد في كشمير ومعه بعض المصلين فيحترق مع النبأ القلب وتتفحم أجزاء من هذه الروح.

 

ثم نتعلم السيرة وندرس عام الحزن وأبكي لشدة المصاب.. ثم نعرف أنه ضُرب وأوذي بالقمامة والقاذورات، فيمتلئ القلب قهراً وغيظاً، ثم نعرف أكثر كيف أصيب وهو يقاتل ويفقد أسنانه.. وكيف يبكي أمه.. وكيف يُقتل عمه.. وكيف يموت.. ومنذ عرفنا كيف مات وعشنا تلك اللحظة وإحساس بالفقد يغمر الروح.. أشبه إلى الإحساس باليتم..

 

أذكر الشيشان وحكاياتها.. أذكر كيف كان الروس يقطعون آذان المسلمين ويحتفظون بها ليتفاخروا بعدد المقتولين، أذكر أحاديث كثيرة عن المفقودين، وعن القتل الكثير من القتل.. وعن غروزني وصورتها وهي رماد..وأذكر خطّاب.

 

وتظهر الصومال بكل ما فيها.. من جوع وقهر.. من حروب وخلافات.. ثم أمر بصورة لصبي يحمله جنديان أمريكيان.. كلٌّ منهما يحمل يدين ورجلين.. ويمرجحانه فوق نار أشعلاها تحته.. فأحس بالذل والعجز.. وتنتابني أحاسيس من القرف والغضب..

 

ثم العراق..  ونعيش أياماً منتشين بكلمات يلقونها عى مسامعنا، ونشاهد القصف ليلاً فيأكلنا الرعب.. فيطلعون صباحون وهم يسبون العلوج ويكذبونهم.. وهكذا حتى دخلوها.. نهاراً جهاراً.. ونحن نشاهد وننكر.. ونقول الآن تظهر الدبابات.. ما هذا إلا كمين.. الآن يخرجون عليهم.. ولكن أحداً لم يخرج..وماهي إلا أيام ونسمع عن الكتب التي بعثرت ونرى الفوضى في الشوارع وكل شيء يسرق.. وتاريخ العراق يضيع.. ووهجها يخبو.. لسبب ما كانت العراق كبيرة جداً.. كانت عزيزة جداً وغالية جداً.. أذكر أنني لم أتحمل مشاهدتها بتلك الصورة.. أذكر بكاءً مراً وأسئلة من قبيل: ليش يا ربّي ليش؟

 

ثم أقرأ عن علي والحسن والحسين وآل البيت عليهم الصلاة والسلام، فيملأني الكمد.. وأكره نفسي وأقول ما بال أمتي.. يا رب ما بال أمتي.. كيف يحدث هذا والمسلمون أحياء يرزقون.. ولا أفهم..

 

وأمر بتجربة المعبر الذليلة بعد أعوام فأكره السجن والسجان ويبعدني عن الوطن إحساسٌ بأني بحاجة إلى إذن سجاني لكي أدخل أرضي.. فتزداد المرارة.

 

أنظر الآن حولي وأرى مزيداً من القتلى.. مزيداً من الرؤوس المفقودة.. مزيداً من الدماء على الأرض وكأنها مياه تصريف لا دماء بشر.. وأرى مزيداً من القهر مزيداً من الظلم مزيداً من العربدة.. ولكنني لم أعد أسأل: ليش يا ربي.. بل أنظر في الناس من حولي وأصمت

وندرس أكثر عن حروبنا التعيسة ليس فقط مع أعدائنا بل بيننا.. فيزداد إحساسنا بأن أجيالاً سبقتنا جنت علينا وعلى أنفسها.. ويحدثوننا عن "الرجل المريض" بكل برود ونحفظ المعلومات لنجتاز امتحاناً في نهاية الأمر.. لكنهم لا يحدثوننا عن أن حياتنا الآن ما هي إلا ما خلفه ذلك الرجل المريض.. وكل أعبائنا وتأوهاتنا من واقعنا السخيف ما هي إلا لأنهم لم يعترفوا أنهم فشلوا في علاجه وتركوا لنا هذه المهمة.

 

قد أكون أحلم وأنا أعتقد أن أبناء هذا الجيل عاشوا كل تلك اللحظات.. ولكن لمن يألفها:

 

لم نكن هكذا دائماً، ربما كانت أحلامنا وآمالنا مختلفة ونحن صغار.. ربما لم نكن نغتم عندما نشهد ظلماً، أو يصيبنا اكتئاب عندما نتعرف على نكبة جديدة لكن زماننا فعل بنا ذلك، ليست نقمة هذه.. لا.. فأنا لا أتخيل حياتي بلا أولئك الإخوة المجهولين في كل هذه الأماكن.. ولرحمة من الله فإن كل هذا لم يتسبب في تحولي إلى روح ناقمة تريد أن تحرق كل ما تستطيع ممن تسببوا في شيء من هذه النكبات.. محظوظون نحن عندما ننظر إلى كل هذا ونفكر كم أن العالم بحاجة إلى الله.. لا أنكر أنني كثيراً ما تساءلت أين الله، ولماذا لا يفعل شيئاً.. لماذا لا يموت الذين يقتلون لماذا لا يهزمون.. ولكنني وجدت الله معي في حياتي.. لا في حياة الناس.. فغلب على ظني أن البشرية مجتمعة بها الكثير من العلل.

 

أنظر الآن حولي وأرى مزيداً من القتلى.. مزيداً من الرؤوس المفقودة.. مزيداً من الدماء على الأرض وكأنها مياه تصريف لا دماء بشر.. وأرى مزيداً من القهر مزيداً من الظلم مزيداً من العربدة.. ولكنني لم أعد أسأل: ليش يا ربي.. بل أنظر في الناس من حولي وأصمت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.