شعار قسم مدونات

شقة "كايت هانة"

blogs - امرأة في منزل

زارتني صديقة قريبة إلى قلبي في بيتي الجديد؛ فشكرت فيه وفي ذوقه وقالت لي في إطار مدحها وبنِيَّة طيبة؛ إن هذا البيت أفضل كثيرًا من شقة "كايت هانة"، وقالت لا بد أن هذه أفضل بكثير، فالشقة الأخرى لا تُنسى لأنها كانت بشعة كثيرًا..

 قالت صديقتي هذه الكلمات بنية حسنة، ولكنها لم تعلم كيف تشكلت أروى جديدة تمامًا في ذلك البيت الصغير غريب الأطوار المتعب للنفس والروح، في هذا البيت تعرفت على شظف العيش والعيش بقروش قليلة، تغيرت حياتي من بيت أعيش فيه بخمس غرف مؤثثة بأثاث كامل لبيت بدأته بمرتبة فقط كبديل عن غرفة النوم، وكنبتين كانتا بديلًا عن صالونين وسفرة في بيتي الذي تركته وغادرته فجأة دون إنذار ولم أعد إليه أبدًا، حياة جديدة بلا سيارة ولا عمل أقبض منه آلاف الدولارات، وأتفف من الملل وأنه لا يناسب قدراتي الخارقة.. بعمل "فري لانس" لزوجي الذي بدأنا نتعرف على حياتنا معًا من جديد..

في هذ البيت أيضًا تعرفت على الاكتئاب خبرته، وزارني وحط رحاله عندي عامين كاملين، في غرفة نوم هذا البيت مرضت بشدة لم يكن السبب عضويًا بل نفسيًا، كنت أبكي حتى عجزت عن التقاط أنفاسي وكدت أختنق، كنت وحيدة ولم يكن هناك أي شخص بجواري إلا زوجي، في هذا البيت قلت لأول مرة في حياتي "أريد أن أموت" وبكى زوجي لأول مرة في حياة زواجنا عندما سمعني أقول ذلك.. وزاد بكائي لما رأيته يبكي وبكينا سوية حتى نمنا واستيقظنا وقد أغلقت عيناي تماما لا أرى لأن جفناي تورما فلا مكان لهما ليفتحا من جديد، واضطر زوجي للجلوس بجواري يعد الكمادات لعيناي..

في هذا البيت تعرفت على نفسي الجديدة، ولدت ولادة قد لا تحظى بها فتاة في الرابعة والعشرين -كما كنت وقتها- كان شيئًا مختلفًا، كان انزلاقًا صعبًا من رحم المأساة.

في هذا البيت اكتشفت هشاشتي وضعفي وانهارت دفاعاتي النفسية عن أني لا أبالي، وأني قوية وأني قادرة على قول "لا" دائمًا.. في هذا البيت تعرفت على أروى جديدة تسأل نفسها عن قناعاتها وعما إن كنت قادرة على دفع ثمن هذه القناعات أم لا، وعما إذا كنت مؤمنة حقًا بما أقول أم أنه كلام؟ وإذا لم أكن قادرة على دفع الثمن فهل يجب أن أقول ما لا أقدر على دفع ثمنه كاملًا بنفس راضية صابرة؟ هل هذا كل شيء؟.. لا..

في هذا البيت أقمت أربع حفلات "حنة" لأربع عرائس جدد قدمن بلا صديقاتهن وبلا أهلهن وأقمنا الأفراح والليالي الملاح حتى تعبت العرائس من الرقص والفرح.. في نفس هذا البيت أعددت غداءات لعشرات الأصدقاء كان بيتنا يجمعهم دائمًا، للعزاب الجائعين، والصديقات اللواتي يدرسن بلا أهلهن..

في هذا البيت حل علينا ضيوف بلا مأوى، أقاموا عندنا حتى تيسرت ظروفهم، فكانوا رزقًا وخيرًا وبركة شهدنها وخبرنها ونحن نجمع آخر ما تبقى في جيوبنا لنعد طعامًا يليق بضيف مر مرة ولن يمر أخرى..

في هذا البيت تعرفت لأول مرة على دوافع الناس الخفية وتصرفاتهم غير المفهومة، التي لم أكن أعيها، إذ قبل هذا البيت كنت مدللة بشكل لا يطاق، لا أرى الناس إلا بظروفي أنا، كنت أرى في نفسي شمسًا والناس كواكب من حولي، واكتشفت أننا جميعًا سواء، نمر بظروف وأزمات وآلام، قد نتعامل مع غيرنا بقسوة ليس لأننا نكرههم بل لأننا ننهار والإنسان يكره ضعفه، ويخفيه بالقسوة..

في هذا البيت حصلت على الماجستير بدرجة امتياز، لم أحصل عليه وحدي بل حصل عليه زوجي معي فهو كان المحرك والدافع والمشجع والروح، فوقتها كنت جسدًا بلا روح.. في هذا البيت أعد لي زوجي حفلًا يوم عيد ميلاده "نعم عيد ميلاده هو وليس عيد ميلادي أنا"، وأحضر لي ماكينة الخياطة التي توقفت أمامها في الفاترينة طويلة، ولم أطلبها، خجلت أن أقول أريدها بعد أن شردته في البلدان وقطعته عن أهله ورزقه، وقفت وفكرت أطلب ماكينة خياطة كشيء كمالي، كهواية ونحن نكمل الشهر بصعوبة بالغة، رجعت من الجامعة وجدت البيت مضاءً بالشموع وماكينة الخياطة قد غلفت بورق الهدايا ووضعت على الطاولة تنتظرني.. بكيت طبعًا وقتها لأنه أنفق كل ما نملك على ماكينة الخياطة..

أتذكر هذه الأيام، وأتذكر ما قاله الدكتور سيف الدين عبد الفتاح عن المكانة والمكان، وكيف تشكل الأماكن جزءا من تاريخنا وذاتنا، أنظر لنفسي بفخر وأنا أقول في نفسي "جدعة يا بت يا أروى".

في هذا البيت وبعد سنين من الزواج اقتربت أنا وعلي جدًا من بعضنا، حتى صرنا نفسًا واحدًا، في هذا البيت اعتمدنا على أنفسنا ولو طلبناها لانهال علينا المال من أهله وأهلي ولكفتنا بعض آلامنا، ولكنه كان خيارنا الذي بسببه أزهرنا.. في هذا البيت تعرفت على نفسي الجديدة، ولدت ولادة قد لا تحظى بها فتاة في الرابعة والعشرين -كما كنت وقتها- كان شيئًا مختلفًا، كان انزلاقًا صعبًا من رحم المأساة لحياة جديدة تعرفت فيها على نفسي وقدراتي وروحي واحتمالي..

يقول لي أصدقائي تغيرتِ علينا، ومن منا لا يتغير كل الأمر أنكم لم تشهدوا هذا التغيير.. أفكر لو عاد بالزمان، أكنت أتجنب الألم؟ أقول جازمة "لا".. من تأتيه الفرصة لتنبت من قلبه الزهور ويقول لا؟ من تأتيه الفرصة ليشق وحبيبه الطريق ويقول لا؟ فرصة في العمر أدركت فيها قوتي وما أملكه حقًا وما لا أملكه..

أتذكر هذه الأيام، وأتذكر ما قاله الدكتور سيف الدين عبد الفتاح عن المكانة والمكان، وكيف تشكل الأماكن جزءا من تاريخنا وذاتنا، أنظر لنفسي بفخر وأنا أقول في نفسي "جدعة يا بت يا أروى"، أصبح للمكان الضيق غير المريح مكانة في نفسي عالية.. ورغم أنني قد بدلت بعده بيتي مرتين إلا أنه بقى ذكريات وألم وتبدل في الأحوال والنفسيات كنموذج لما تفعله الأيام في الإنسان، فرب اليوم في ضيق، يأتيك غدًا بالفرج ولعل المحنة هي عين المنحة، ولعل ما يضيق به صدرك هي خلاصك وتشكيل جناحيك وروحك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.