شعار قسم مدونات

اسمها إيديا!

blogs إيديا

هي حكاية طفلة في الثانية من عمرها…
 

كنت أتمنى لو أن الحكاية بدأت بطفلة في سنوات عمرها الأولى، وانتهت بمهندسة شابة أو طبيبة حاذقة أو حتى وزيرة نشيطة أو سيدة أعمال ناجحة، تحدت كل الظروف الصعبة، وتجاوزت سوء الحظ الذي ألقى بها في بقعة منسية من المغرب العميق، لتكون نموذجا للإصرار والمثابرة والقدرة على بلوغ أعلى درجات سلم النجاح رغم كل المعوقات، إلى آخر هذا الكلام الجميل والسريالي الذي يهوى مدربو التنمية البشرية إلقاءه على مسامعنا في محاضراتهم.
 

ولكنه الواقع، الواقع الذي يصر على ترك طعمه المر في لسانك كلما حاولت تجاهله…
 

اسمها إيديا نصر الدين، طفلة في الثانية من عمرها، تنحدر من جماعة تودغى العليا بإقليم تنغير، هناك في الجزء المنسي من الجنوب الشرقي للمملكة المغربية.
 

لا، لنكن أكثر وضوحا، فاسمه الحقيقي هو "المغرب غير النافع" حسب التصنيف الاستعماري الذي يبدو أن مسؤولينا لم يتخلوا عنه بعد ستين عاما من حصولنا على "الاستقلال"!
 

تلعب إيديا وتمرح كأية طفلة في سنها، لكنها سقطت على رأسها أرضا، فأصيبت بنزيف دماغي استدعى نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى الإقليمي لمدينة تنغير، هناك صدم أب الطفلة بعدم توفر المستشفى على المعدات والتجهيزات الطبية الكفيلة بتقديم العلاج الضروري لابنته، فانتقل بها إلى المستشفى الجهوي مولاي علي الشريف بمدينة الرشيدية، في سيارة إسعاف متهالكة لا أبالغ عندما أقول بأن المشاهد القادمة من سوريا وغزة والعراق واليمن رغم دمويتها إلا أنها توحي بأن سيارات الإسعاف هناك أفضل حالا بكثير من هذه السيارة التي قد تصلح لأي شيء، إلا نقل طفلة مصابة تحتاج تدخلا طبيا عاجلا !
 

طالب الجميع بمحاسبة المسؤولين عن هذا الإهمال الذي لا يمكن إلا أن يدفع أبناء مسقط رأس إيديا إلى النقمة على هذا التهميش الذي يطالهم، وقد بدا ذلك واضحا في الجنازة المهيبة التي أقيمت للطفلة وحضرها جمع غفير

تم إخضاع الطفلة لكشف بالأشعة (أو ما يعرف في الاصطلاح المغربي الدارج بالسكانير) في مستشفى الرشيدية، فطمأن الطبيب الأب قائلا بأن حالة الطفلة عادية، ولا تعاني سوى من كسر بسيط في الجمجمة، لكن علاجها يقتضي الذهاب بها إلى مستشفيات مدينة فاس.
 

500 كيلومتر، بين تنغير والرشيدية وفاس، في سيارة إسعاف مهترئة لا تصلح حتى لنقل الأموات، فكانت النتيجة وفاة إيديا، إذ لفظت أنفاسها الأخيرة بعد ساعة واحدة فقط من وصولها إلى أحد مستشفيات فاس، فطبيب الرشيدية أضاف إلى ضعف التجهيزات أو انعدامها خطأ فادحا في التشخيص، ولم يرصد وجود نزيف داخلي أدى التأخر في علاجه إلى موت الطفلة.
 

خلفت هذه النهاية الحزينة والمأساوية غضبا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي، وطالب الجميع بمحاسبة المسؤولين عن هذا الإهمال الذي لا يمكن إلا أن يدفع أبناء مسقط رأس إيديا إلى النقمة على هذا التهميش الذي يطالهم، وقد بدا ذلك واضحا في الجنازة المهيبة التي أقيمت للطفلة وحضرها جمع غفير من المشيعين الغاضبين، فوفاة إيديا لم تكن سوى النقطة التي أفاضت كأس الصبر على هذا التجاهل الذي يراه هؤلاء مقصودا، ومختلفا تماما عن الصورة التي تحاول وزارة الصحة رسمها للوضع العلاجي والاستشفائي في عدد من المناطق النائية في البلاد.
 

كثيرا ما تتحفنا القناة التلفازية الرسمية بمشاهد وصور لمروحيات تابعة لوزارة الصحة أو الدرك الملكي وهي تهرع لإنقاذ نساء حوامل أو أطفال مرضى أو حتى سياح أجانب في مناطق جبلية نائية، خاصة في فصل الشتاء، معتبرة ذلك إنجازا ضخما يستوجب التنويه، رغم أنه حدث عادي جدا في دول أخرى تحترم الإنسان وتعتبره أغلى ما لديها!
 

عذرا يا ابنة تنغير، كان عليك السقوط في مدينة كبيرة كالرباط أو الدار البيضاء أو فاس، ولو أنني لا أضمن لأطفال هذه المدن نفسها علاجا مناسبا ما دمنا نتحدث عن وضع صحي مترد، ومستشفيات يخيل للداخل إليها أن المغرب بعيش حالة حرب

ولكنك رغم ذلك تطرح سؤالا مشروعا، أين كانت هذه المروحيات المجهزة التي تتبجح الوزارة بامتلاكها عندما سقطت إيديا؟
 

بطريقة أخرى، لماذا لا تتوفر هذه المناطق النائية على تجهيزات طبية مناسبة؟ أم أنها مناطق لا تدخل ضمن حسابات المسؤولين إلا عندما يتعلق الأمر بجمع أصوات المرشحين في الانتخابات؟
 

أكتب هذه السطور، في الوقت الذي اتفقت فيه عدد من الجمعيات والنشطاء الفيسبوكيين على تنظيم وقفات ومسيرات احتجاجية في مختلف مدن البلاد، خاصة في العاصمة المغربية الرباط، أمام مبنى البرلمان (الذي تعودت ساحته على جميع أنواع الاحتجاجات، فلا أحد راض عن شيء في هذا البلد السعيد)، للتعبير عن الاستنكار والتعاطف مع أسرة الطفلة والتضامن مع هذه المناطق المهمشة التي ضاقت ذرعا بكل هذه المعاناة.
 

عذرا يا ابنة تنغير، كان عليك السقوط في مدينة كبيرة كالرباط أو الدار البيضاء أو فاس، ولو أنني لا أضمن لأطفال هذه المدن نفسها علاجا مناسبا ما دمنا نتحدث عن وضع صحي مترد، ومستشفيات يخيل للداخل إليها أن المغرب بعيش حالة حرب، رغم أن لازمة "الاستثناء المغربي" و "نعمة الأمن والأمان والاستقرار" لا تفارق ألسنة المسؤولين المغاربة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.