شعار قسم مدونات

الدور السلطوي الأعمى

blogs موظف
ما الذي يجعل أحدنا منتفخ الأوداج، مليء الصدر، قلق الليل، مشغول النهار، بتجربة الآخر؟ ما الذي يدفعه في استماتة غير مسبوقة إلى محاكمة طريقته، وانتقاد وسيلته، وعيب أسلوبه؟ وربما الوصول إلى تشكيكٍ في النوايا واغتيالٍ للذات. من أين تأتي القدرة على الحُكم على ذلك الآخر حكماً غيبياً مطلقاً دون أدنى محاورةٍ أو مناظرة. هل هي الغيرة العمياء مما يفعل، أم هي الغيرة العمياء على ما يفعل؟ أم أن الدور السلطوي الممارس من قبلنا تجاه الآخر هو الأعمى. 

 

نظن في غفلة من الزمن، أن الحياة قد حيزت لنا، بعد تجربة مؤثرةٍ خضناها في إحدى المجالات، أو إنجازٍ ملأ السمع والبصر في حقبةٍ ما، ثم ما يلبث أن نكتشف أن هذا الزمن الذي غفلنا به وعنه، يفاجئنا بمن قد تولى زمام الأمر الذي نُسَيّرُه، وتَصَدّر مشهد التجربة، وضخ دماً جديداً في اتجاه جديد، فيخالطنا شعورٌ من الخيانة الزمنية، أو العقوق المجحف بحقنا، وقد كنا سباقين فيما نظن، وأن ابن البارحة هذا لم يمر من أمام ناظرينا ولَم يصنع على أعيننا، فكيف له أن يتبوأ هذا المقعد؟ 

 

ثم يُمْعِن السباق الزمني التكنولوجي، والمعرفة المتاحة المتسارعة، في إبعادنا عن المشهد رويداً رويداً، وخاصة أن الجدد قد تمرسوا على الأدوات وواكبوا خطى التغيير، فلا نلبث إلا أن يُسقط في يدنا، وأن آخر عربةٍ في القطار قد غابت عن أعيننا، وأن المحطة التي اعتدنا أن نكون روادها، قد ألقت بنا على ضفاف السكة.

 

يتعرض من نذر نفسه لقضية، أو أفنى ذاته فيها، إلى جبهات متعددة من العقبات، وإلى موجات لا تنقضي من الهجوم الذي تتعدد مصادره وأسبابه ودوافعه، ولا ينبغي على من تصدر للمواجهة أن يغفل هذه الحقيقة

وإذا ما تداركنا الأمر، وأردنا اللحاق، تداركت علينا الأنفة، ذُل الانتظار في المحطة، ومواعيد الانطلاق بالقطار، فكيف نكون مثلهم ونحن من ملكنا الدرب الأول، وكنا رواد السكة الأولى. ثم ينفجر كل هذا في داخلنا، فنتعالى على السكة والقطار والمحطة، وننسى أنها الوسيلة الوحيدة للمضي قدماً، فنبدأ بإرسال اللعنات جزافاً، وكيل الأحكام صاعاتٍ صاعات، وبِحُكْم ما نمتلك من تاريخ فيما يخوضه الآخرون، فإننا ننكر عليهم أسلوبهم، وندعي زيف تجربتهم، وكذب قدرتهم، ممارسين دوراً سلطوياً، ومحاكمين بحجة الغيرة على الدرب من الانحراف، دون أن ندرك أن المضي لا يحتاج إلا التدارك والانطلاق.

 

يتعرض من نذر نفسه لقضية، أو أفنى ذاته فيها، إلى جبهات متعددة من العقبات، وإلى موجات لا تنقضي من الهجوم الذي تتعدد مصادره وأسبابه ودوافعه، ولا ينبغي على من تصدر للمواجهة أن يغفل هذه الحقيقة، ولا أن يرمي بحمله عند أقرب ناصية ولا أن يخلع معطفه عند أول هجوم. وليعلَم أن أول المتنطحين لطريقته هم سالكو الطريقة الأوائل، وأن دوراً سلطوياً محاكِماً سيظهر له من نخبةٍ هنا أو من مدعي نخبةٍ هناك، فلا يجزعن، وليعلم أن عدد الطرق للوصول هي عدد أنفاس الخلائق، فليصنع طريقته على عينه، ولا ينتظر رضا السلطويين في أي مجال. 

 

لستيفن سبيلبرغ مقولة في السينما "كل شهر تنطبق السماء على الأرض عندما أشاهد فيلما، كنت أودّ لو أنا الذي صنعته"، فدع السماء تنطبق عليهم، وأكمل صناعتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.