شعار قسم مدونات

عمائم الإصلاح وبنادق الكفاح

blogs - guns

يحدثنا التاريخ البشري الموثوق به، عن عمائم الإصلاح، وبنادق الكفاح، فيقول بأنه قد ظهر في فجر البشرية على يد أبينا آدم عليه الصلاة والسلام منهجٌ تعليمي تربوي رباني، لا يوجد له منازع، ولا يعارضه مصاول، وهو أن آدم عليه السلام نبيٌّ مُعلَّم ومكلم من الله تعالى، يتولى بنفسه تعليم أولاده ويسوسهم ويرعاهم حسب ما علمه ربه تبارك وتعالى حتى انقضى عصره، وعصر أولاده المباشرين..

 

ثم ظهر بعد ذلك من أسباب الخلاف ما يبعث على تجديد الدين على يد نبيٍّ رسولٍ من ذريته، حيث وقع في الأرض الشرك المنازع للتوحيد، والباطل المناقض للحق، فظهرت لذلك عمامة للإصلاح على يد نوح عليه السلام ومكث في ميدان الإصلاح بالكلمة الصادقة والخطبة البليغة ألف سنة إلا خمسين عاما، حتى جاءه الخبر من الله يقطع عليه الأمل في هداية غير ذلك العدد القليل.. فنجَّاه الله ومن آمن معه، من الطوفان الذي استوعب الأرض، ولم يأمره ربه بقتال ولا جمع مال ولا إعداد جيش لذلك.

 

حين جاء عهد الشتات، اقتصرت الدعوة على الإرشاد والنصح، فيسمع الناس من ذلك النبي كلاما طيبا، ثم يواصلون الركوع في الشرك، والولوغ في أنواع الغي، حتى هانوا على الله تعالى ففرَّقهم في الأرض وشتَّتهم وسلَّط عليهم الذلَّة والمسكنة

فكانت عمامته عمامة إصلاح بالكلمة وكانت النتيجة: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ثم جاءت عمائم الإصلاح بعده تترى كما قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ }، وكان لكل أمة طوفانها المناسب لحالها، ولكن لم يؤمر أحد منهم بحمل سلاح ولا إعداد عدة لكفاح، حتى توقفت عمائم الإصلاح بدون بنادق كفاح عند يوسف عليه السلام حيث كان يتحدث عن التوحيد والعدل، والناس يسمعون منه الحق، ثم ينصرفون لما هم عليه من الباطل والشرك، رغم إظهارهم للإعجاب به، ورغم مكانته الاقتصادية القائمة على الخبرة العلمية والسياسة التخزينية للمواد الغذائية المنقذة للمجتمع المصري آنذاك من ويلات الجوع والجفاف المهلك للحرث والنسل..

 

ولم يكن في الأرض قاطبةً ابتداءً بنوح عليه السلام ومرورا بإبراهيم عليه السلام إلى نهاية حياة يوسف عليهم السلام دولةٌ باسم دين الله تعالى، تُحكِّم شرع الله تعالى على عباد الله، وإنما قصارى ما هو موجود على واقع الحياة أُسرٌ وأسباطٌ عاشوا على التوحيد والعمل الصالح فيما بينها، أو من شاء الله له أن يسلك مسالكها في الحياة بمحض فطرته وقناعته بما يراه من خير عند هؤلاء الأطهار.

 

ولكن – لمَّا لم يتحمل الطغيان الفرعوني تلك البقية الضئيلة الباقية من الخيرية في الناس من ذرية يعقوب عليه السلام، واستبدَّ في مراسيمه العنيفة للقضاء عليها بخطة قتل الذكور من المواليد والإبقاء على تسخير النساء لأنواع التعبيد والمهانة بتلك الخطة الكفيلة بالقضاء على هذا النوع من الناس – رغم ما أصابهم من وهن في الدين، وضعف في الأخلاق، لطول التسخير للأعمال المؤذية للنفوس الأبية – أرسل الله نبيا رسولا بعد أن قال الناس بعد يوسف: {لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا} أي بالبينات، فجاء موسى عليه السلام بالبينات الواضحات والآيات الباهرات، والمعجزات القاطعات، ولكنه بدأ دعوته بعمامة الإصلاح، دون بنادق الكفاح، أو سيوف نجاح..

 

واستمر في ذلك أكثر من خمسين عاما تقريبا حتى كاد يتفلت من طاعته بنو إسرائيل الذين كتب الله لهم الإنقاذ على يده، ورأوا فيه المنقذ القومي والابن الحامي، ثم أنقذ الله دعوته من مصير دعوات السابقين الذين جاء الحديث ووصفهم بأنهم يأتون وليس معهم أحد: "يأتي النبي وليس معه أحد" لأن دعوتهم كانت بمثابة عمائم الإصلاح، بدون بنادق الكفاح، فشرع الله له الجهاد، وفرض عليه القتال بعد تربية في التيه امتدت أربعين سنة، فنجحت رسالته في تكوين دولة النبوات المسماة في العهد القديم: بعهد الأنبياء، ثم جاء بعده -والجهاد مشروع- عهد الملوك الذين يقترحهم الأنبياء، كما أشار إلى ذلك القرآن في قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ } الآيات من سورة البقرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي بعث الله نبيا".

 

ونعلم أن أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن من جمع منهم بين عمائم الإصلاح، وسيوف الكفاح، قد حافظ على كيانهم واستمرت في عهوده الملوك والقضاة، حتى جاء عهد الشتات، حيث اقتصرت الدعوة على الإرشاد والنصح، فيسمع الناس من ذلك النبي كلاما طيبا، ثم يواصلون الركوع في الشرك، والولوغ في أنواع الغي، حتى هانوا على الله تعالى ففرَّقهم في الأرض وشتَّتهم وسلَّط عليهم الذلَّة والمسكنة..

 

وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم أقرب الأمم لنا، وأقرب الأمم بنا شبها، ولعله يشير إلى كل واقعهم من تسلسل قيام تاريخهم مع النبوة على وحدة كلمة عمائم الإصلاح، وسيوف الكفاح، ثم ما جرى عليهم من حوادث التاريخ من عهود النبوة، ثم خلافة النبوة ثم الملك، ثم الوقائع الأخرى المسجلة في تاريخنا، والمعروفة من أحوالنا.. وذلك هو موضوع تدوينة لاحقة إن شاء الله إذا رأت هذه التدوينة النور قبلها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.