شعار قسم مدونات

أراقب الناس ولا أموت هماً

blogs المترو

لدي متعة كبيرة في مراقبة الناس. يمكنني أن أقضي ساعات أترقب حركتهم، وسلوكهم وكيفية تواصلهم مع بعضهم البعض وردود أفعالهم. تعابير الوجه، حركة العيون، عصب اليد أكان مشدوداً أو مسترخياً، طريقة الجلوس وضعية الأرجل، اللباس، الماكياج. أي شيء وكل شيء هو مناسبة للمراقبة والاستمتاع. حين كنت صغيرة، كنت أحدق في الأشخاص من حولي ولا أشيح نظري عنهم حتى تلاحظ أمي إرباكهم فتنهرني.

 

لاحقاً بت أختلس النظر بشيء من المواربة و"اللياقة الاجتماعية" ولكن بالفضول الفطري ذاته والدهشة نفسها. لا أجيد التصوير ولم أنجح في تعلم قواعده على رغم محاولات عديدة وضرورات مهنية اقتضت ذلك. لكن لي عينان تلتقطان المشاهد بأدق تفاصيلها كعدسة كاميرا عالية الدقة ثم تحيل تلك الصور إلى ذاكرة بصرية هي الأقوى بين ذاكراتي كلها. قد أنسى اسما أو حدثاً، ولكني لا أنسى وجهاً. لدي أيضاً أنف، طويل، "مزود برادار" على ما قال صديق ذات يوم ساخراً، له ذاكرته أيضاً في التقاط الروائح وتخزينها في أرشيف خاص. فيكفي أن تعيدها نسمة هواء صيفية لتحيلني تلقائياً إلى أماكن وأشخاص وحالات عشتها.

 

في مترو الأنفاق أراقب الناس. أشكالهم تتغير بحسب المحطات. لباسهم وسلوكهم أيضاً. القطار الذي يتوقف عند كلية من كليات الجامعة يطغى عليه حضور الطلاب والأساتذة والأكاديميين بطبيعة الحال. لباسهم عصري، مريح، يميل إلى التخفف

اليوم مثلاً أفضل الجلوس في مقهى على ناصية رصيف أرصد منه حركة الشارع والمارة والجالسين والعاملين، أكثر مئة مرة من نزهة في الطبيعة. أحب استكشاف مدن أخرى، قرى وبلدات، أماكن مأهولة. أما الطبيعة المجردة فلا أقوى عليها. أقول ذلك لأنه منذ أطل الربيع والأصدقاء من حولي يخططون لرحلات تخييم أو استكشاف نواح بعيدة حيث الغابات والمنتزهات الطبيعية. كنت في السابق أتذرع للتهرب، أما الآن فأقولها صراحة: أنا لا أحب الطبيعة. تصالحت مع الفكرة وبات بإمكاني أن أجاهر بذلك بلا شعور بالخجل أو الذنب. أنا لا أحب الطبيعة. أو بالأحرى، لا أحب من الطبيعة إلا البحر. الأشجار والبراري تستحضر في خوفاً ومللاً لا أعرف مصدرهما.

 

هكذا، أراني أينما ذهبت أراقب الناس. في قاعة الرياضة، وفي المراكز التجارية. في زحمة السير وطابور السوبر ماركت. في بازار الخضار أيام الثلاثاء أو في المطاعم والحانات مساءات الويك إند. أرصد اختلاف رواد مقهى قرب المنزل وآخر في شارع سياحي. أراقب الناس الواقفين عند الإشارة الحمراء ينتظرون إذن العبور، وسائقي سيارات الأجرة المتربصين بهم.

 

في مترو الأنفاق أراقب الناس. أشكالهم تتغير بحسب المحطات. لباسهم وسلوكهم أيضاً. القطار الذي يتوقف عند كلية من كليات الجامعة يطغى عليه حضور الطلاب والأساتذة والأكاديميين بطبيعة الحال. لباسهم عصري، مريح، يميل إلى التخفف. القمصان توحي إنها مصنوعة من القطن أو الخام وملونة بالأصباغ الطبيعية، تلك التي يبهت لونها مع تكرار الغسيل ولكنها تحافظ على الـ "ستايل" الخاص بها. الجاكيت غالباً من الجلد والأحذية من ماركات رياضية. طلاب عشاق يتعانقون، القلقون يراجعون دروسهم بشيء من التوتر. سيدة تقرأ كتاباً سميكاً. أظافرها مقلمة وبعض أطراف اللون تقشر عند الزوايا لكنها لا تبالي. ربما تقضم أظافرها سراً. لا نعلم. هناك شاب يضع سماعات كبيرة على أذنيه ويستمع إلى موسيقى صاخبة. هكذا يستنتج من طريقة هز رأسه بوتيرة واحدة ومتسارعة. أذنه مثقوبة لكنها بلا حلق. في هذه المحطة هامش الأعمار متوسط، وكذلك الطبقة الاجتماعية.

 

في محطة أخرى، حيث المصانع والمعامل الكبرى يختلف المشهد. رجال ونساء متعبون بدا عليهم إنهم تجاوزوا أعمارهم الحقيقية ببضع سنوات. لباسهم سميك ومقاوم لعوامل الزمن، وهم غالباً يحتاطون من تقلبات الطقس بمعاطف ومستلزمات إضافية. أكياسهم كبيرة كبقجة الجدات قبل اختراع النايلون. روائح الأجساد المنبعثة في المكان تدلك إلى الجهد البدني المبذول قبل الارتماء على مقعد القطار أو الحافلة.

 

في المساء، حين تضاء غرف الجلوس وتبدأ حركة أفراد الأسرة تدب فيها، أشعر أنني في السينما. الستائر الخفيفة تحجب الرؤية وتحيل الأشخاص خلفها إلى خيالات لتبقى شاشات التلفزة وحدها الأكثر ظهوراً

بعضهم، الأكبر سنا، يغط تلقائياً في نوم عميق فيما ينصرف الأصغر إلى لعب إلكترونية على الموبايل لقتل الوقت. النساء يطالبن بحقهن في أولوية الجلوس، ولا يتورعن عن توجيه اللوم لرجل أو شاب لم يقف من تلقائه لدى دخولهن. أستعيد نصاً بالفرنسية بعنوان "مترو الضواحي". أحاول أن أطابق بين ما قرأت وما أرى. يصح هنا، لا يصح هناك.

 

في المساء، حين تضاء غرف الجلوس وتبدأ حركة أفراد الأسرة تدب فيها، أشعر أنني في السينما. الستائر الخفيفة تحجب الرؤية وتحيل الأشخاص خلفها إلى خيالات لتبقى شاشات التلفزة وحدها الأكثر ظهوراً. أبنية كاملة مضاءة بحيوات نابضة داخلها، ليبقى الأكثر حميمية فيها تلك الطوابق الأرضية التي تكاد تدعوك للدخول. كتب، أو أحواض زهر، قطة سمينة وألعاب أطفال، أو منافض للمدخنين… تفاصيل منزلية مشبعة برائحة البصل المقلي تتسلل إلى الشارع، تناديك وتدفعك بك إلى مزيد من التلصص. فتراقب، تراقب، وتنتبه فجأة إنك على ما يرام، ولم تمت هماً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.