شعار قسم مدونات

"كاتالوج"

blogs - child

لا يكادُ يمُرُّ يومٌ لا نسمع فيه عن حالةِ عُنفٍ بين الأزواج، أو تعنيفٍ للأطفال على يدِ ذويهم في عالَمنا العربيّ، أخبارٌ عادةً ما يتلقّاها القارئ باستهجانٍ كبيرٍ خصوصًا إنْ كانَ أبًا أو كانَتْ أُمًّا، ففي الوقت الذي يُناضل كلٌّ منهما في هذه الحياة مِن أجل توفير كلِّ ما يلزَمُ فلذات أكبادهم تجدُ مَن يُهمِلُ أبناءَه، أو يُعنِّفُهم بلا ضمير ولا أخلاق.

 

هذه الأحداث اليوميّة التي نقرأُ عنها وأحيانًا نُشاهدها بأُمِّ أعيُننا تفتحُ أمامنا باب التساؤل، هل يحملُ كلّ رجلٍ مشاعرَ أبويّةً مُتساوية؟ وهل تُولَد كلّ امرأةٍ ومعها غريزةُ الأُمُومة؟ ماذا لو كانتْ هذه الأُمُّ المُعنِّفةُ لأطفالها والمُهمِلةُ لهم تفتقرُ لهذه المشاعر أصلًا؟ ماذا لو كانتْ غيرَ مُهيَّأةٍ نفسيًّا لتُصبح أُمًّا؟ ماذا لو لم يمتلِكِ الرجلُ مشاعرَ تِجاه المرأة أو الأطفال؟ ماذا لو لم ينشَأْ على تحمُّلِ مسؤوليّةِ عائلةٍ أو لم يكُنْ يحمل الرغبة في ذلك؟

 

الأطفال المُهمَلُونَ والمُعنَّفُونَ هم مشاريعُ لرجالٍ ونساءٍ غيرِ أسوياء نفسيًّا.. هي دائرةٌ مِن الأخطاء سيظلُّ المُجتَمَعُ حبيسها حتّى يتغيّرَ ويعيَ أنّ الله خَلَقَنا مُختلِفِينَ

هُنا نعود إلى مرحلة التنشئة والإعداد، وعدم مراعاة الفوارق السيكولوجيّة بين أفراد المجتمع، فكلُّ فَرْدٍ يُولَدُ ومعَه كتابُ تشغيلٍ (كاتالوج) واحد ينطبق على الجميع، دراسة، عمل، زواج، إنجاب.. إلخ، (كاتالوج) جعَلَنا نُسخِّرُ حياتنا لتنفيذ ما به مِن نقاط واحدًا تلْو الآخر، دون مُراعاةٍ لنفسيّاتنا وقُدُراتنا، لما نُحبُّ ولما نكرَه، بل إنَّ أيَّ خُروج عن المُخطّط العامّ يُعَدُّ فشلًا في نظر المجتمع، فإنْ لم تتمكَّنْ مِن إنهاء تحصيلك الدراسيّ فنجاحُكَ منقوصٌ وإنِ اكتسبْتَ حِرفةً تُدرُّ لك ذهبًا وكانَ بلدُكَ في أمسِّ الحاجة لها، وهي إنْ لم تتزوَّجْ فنجاحُها ناقِصٌ وإنْ أصبَحَتْ وزيرة، وهو إنْ لم يُرزَقْ بالأولاد فإنّهُ يستحقُّ الشفقةَ، وهكذا..

 

قالتْ لي امرأة يومًا: "رزقَني الله طفلًا واحدًا فقط، وقد اجتهَدْتُ لسنوات طويلة وأنا أُحاولُ أنْ أُنجبَ أكثر إرضاءً للمجتمع، إلّا أنَّني الآنَ وبعد سنوات مِن المُحاولات أعرِفُ تمامًا أنّ اللهَ أعطاني ما أستطيعُ تحمُّلَه، ولم يُحمِّلْني ما لا طاقةَ لي به، فأنا امرأةٌ عصبيّةٌ وقَلِقَةٌ لم أكُنْ لأتحمَّلَ تربيةَ أكثر مِن طفلٍ دُون أنْ أظلِمَ أحدَهم".

 

صديقةٌ لم تتزوَّجْ؛ حدَّثَتْني مرّةً أنّها لا تُحبُّ أنْ يُشاركَها أحدٌ غرفتَها وأشياءها، هي تُحبُّ أنْ تعيش في مساحتها الخاصّة؛ لذلك فإنّ فكرةَ الزواج والمُشاركة لا تروق لها إطلاقًا.

 

قد يتساءل البعض لِمَ يقبل الفرد على نفسه فعل ما لا يُحب؟، والجواب البسيط يكمن في ضغط المجتمع الذي يُخلُّ توازن الفرد وصموده إن لم يتمتع بقوة إرادة كبيرة تُمكِّنُهُ من مواجهة رصاص الانتقاد اللاذع والتشكيك المستمر بقراراته التي تحيد عما هو مُعدٌّ سَلَفَاً للأفراد.

 

ليستْ هذه دعوةً للتوقُّفِ عن الزواج أو الإنجاب، ولكنّها دعوةٌ صريحةٌ للكفِّ عن استنساخ حيواتِ الآخرينَ وفرضِها على الجميع دُون مُراعاةٍ للفوارق والقُدرات، رِفْقًا بالمجتمع ككلّ، فالأطفال المُهمَلُونَ والمُعنَّفُونَ هم مشاريعُ لرجالٍ ونساءٍ غيرِ أسوياء نفسيًّا.. هي دائرةٌ مِن الأخطاء سيظلُّ المُجتَمَعُ حبيسها حتّى يتغيّرَ ويعيَ أنّ الله خَلَقَنا مُختلِفِينَ، وأنَّ لكُلٍّ الحقَّ في اختيار حياتِهِ التي تُلائمُه بعيدًا عن الاستنساخ و(كاتالوج) المُجتمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.