شعار قسم مدونات

حينما يحقد الإنسان على وطنه

blogs - rafah
 
عندما تكون الأوضاع في البلد مستقرة والحياة فيها مريحة للناس في ظل رخاء معيشي وحرية في العمل والتنقل والتجارة والسفر مع اقتصاد مرتفع يتنافس الجميع لكتابة أبيات الغزل في الوطن، حتى إن الطبيب يستقطع وقتًا أثناء عمله ليكتب أشعار الحب في الوطن، والعامل سيهرب من متاعب عمله بدندنات الأغاني الوطنية.

لكن التحدي الحقيقي لهذا الحب حين تأخذ الأرض منا أكثر مما تعطينا، فتغدو الحياة صعبة أو شبه معدومة، حينها تصبح الهموم صديقة للناس الأسرى في بيوتهم ليس لشيء إلا لأنهم لا يملكون ثمن المواصلات حتى يخرجوا، التحدي الحقيقي عندما تكون الأرض مثل غزة، حيث معدلات البطالة الأعلى عالميا، ومعدلات الفقر التي تسابق الزمن في محاولة لسرقة أكبر قدر من فرص الحياة على هذه الأرض، في ظل حصار وأزمات إنسانية تتصاعد يومًا بعد يوم، ولم يسلم منها حتى المرضى في المشافي.

"برغم القيد والسجان لم أحقد على بلدي، برغم السور والتعتيم والطعنات في كبدي".. قبل أكثر من عشر سنوات حين كنت طفلًا صغيرًا سمعت هذه الكلمات للمرة الأولى من المذياع في سيارة والدي، ويومها لم ألقِ بالًا لتلك الكلمات وربما لم أفهمها على وجهها الصحيح، فتعجبت وقلت ما علاقة حب الوطن بكل هذه الأشياء وما علاقة الوطن بهذا كله؟ لم يتغير هذا التساؤل لكنني اقتربت من مشاعر المترنم أكثر؛ فحين يصل الإنسان إلى حافة اليأس أو البؤس؛ فإن المشاعر الجميلة تذوب في داخله كما يذوب الملح في الماء، ويبدو عنيفًا وكارهًا أو ناقمًا على محيطه بشكل أكبر، يحاول تحميل اللوم على أوجاعه لكل شيء حتى إن كان الذين يحملهم الوجع هم ضحايا مثله، بما فيهم الوطن.

لا يقبل عقلي أن يكون هناك إنسان يبرر محاربة الشعب في قوت يومه وحليب أطفاله لأغراض سياسية، فهذه بهائمية لا نقاش فيها؛ ساقطٌ ورخيص كل من يفعلها.

الوطن الذي هو ذكريات وبيوت عشنا فيها، ومدارس تعلمنا بها، وجيران عشنا معهم، وتراب احتضن رفات أحبتنا، وأرضٌ لطالما أنبتت لنا الزهور والثمار ومن بطنها سقتنا الماء ومن بحرها زادت دنيانا بهاء، لكن ماذا تفعل لنا الأرض إن أغلقوا في وجهنا كل الأبواب، ولم يبقوا لنا معبرًا من الأرض أو من السماء أو من البحر، وهذا ما دفع الشباب لأن يحفروا في الأرض، فيصعد منهم فتيةٌ إلى السماء، هم رغم الآلام تاج رؤوسنا والفخر.

نعم نحن نتحدث عن الحياة وما العجيب في ذلك، من الصعب أن أكون هنا مثاليًا لكنني أعرف أن الاحتلال وراء كل معاناة نعيشها وسببٌ أساسي لها، حتى إن بعض الظروف السياسية والانقسامات بما فيها الجغرافية هو الذي صنعها وعززها، ولو كنا في بلادٍ حرة لكانت أحمال قلوبنا أقل بكثير؛ فهو الذي يقصف المصانع بما فيها مصانع حلوى الأطفال عند كل حرب، وهو الذي يقصف المشافي والمتنزهات والمدارس ومحطات الكهرباء وكل شيء، وهو الذي يغلق علينا بالأساس وإن عاونه آخرون.

غير أن ظلم ذوي القربى من الخونة أو الجهلة الذين يستخدمهم الاحتلال أو يخدمونه دون مقابل تحت ذريعة الخصومة السياسية هو أشد وأثقل على نفوسنا من أي شيء آخر، ولا يقبل عقلي أن يكون هناك إنسان يبرر محاربة الشعب في قوت يومه وحليب أطفاله لأغراض سياسية، فهذه بهائمية لا نقاش فيها؛ ساقطٌ ورخيص كل من يفعلها، ستلعنه الأجيال ولن يرحمه التاريخ.

فليجاهد الإنسان نفسه حتى يبقى محبًا لأرضٍ فيها ريح صباه ولا يشتمها؛ فقسوة الزمان عليها وليست منها، وهنا يتمايز الحب الحقيقي للوطن من الحب الذي كان لأجل المصالح والمنافع.

وأظن أن تلك الكمات التي سمعتها في صغري قد قيلت عن مأساة حماة الأولى، وهي تشبه كثيرًا تلك الكلمات التي يقول فيها الشاعر: "بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ"، وهنا أقول قد يغادر الإنسان موطنه مكرهًا بسيف الأعداء أو قهر الظروف وليس في أصل ذلك انتقاص إن كان ليس عن ذلك مناص؛ فرسولنا عليه الصلاة وأزكى السلام غادر أحب بقاع الأرض إليه ثم عاد إليها، لكنه كان طوال فترة غيابه يعمل من أجل لحظة العودة تلك ولم يخرج ليحرق أوقاته وأيامه حاشاه وهو الموصوف بأزكى أوصاف الكمال والجمال.

فالإنسان سيسأل عن أوقاته كما سيسأل عن صلاته، وليس شيء مثل الصلاة والإيمان يعطينا قوة للصبر في مثل هذه الأوقات، فبذكر الله تطمئن القلوب وبالصلاة والصبر يكون العون، فنحن نقول خمس مراتٍ في كل يوم: "إياك نعبد وإياك نستعين"، وإنسان تدبر قوله تعالى: "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" من المستحيل أن تغادر الطمأنينة قلبه، وإنسان فهم معنى قوله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" من الصعب أن ينفد صبره، وما انفطر قلبٌ عرف مراد الله من الحياة أبدًا؛ فالله يقول في مطلع آيةٍ: "ولنبلونكم"، ويقول في آخرها: "وبشر الصابرين".

وبهذه الكلمات أوصيكم وأوصي نفسي، فليجاهد الإنسان نفسه حتى يبقى محبًا لأرضٍ فيها ريح صباه ولا يشتمها؛ فقسوة الزمان عليها وليست منها، وهنا يتمايز الحب الحقيقي للوطن من الحب الذي كان لأجل المصالح والمنافع، وإلا إذا خسر الإنسان في هذه المعركة فإنه قد خسر الكثير وغلبته أحقاده المدمرة لهويته وذاته، وانهزم في وَاحِدَةٍ من أكبر معارك حياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.