شعار قسم مدونات

تاريخنا أسفل نعالنا

blogs - مدينة تدمر الأثرية

نحن قومٌ يستغفلُ ذاته، يشدّ حذاء الفلامينكو جيّدًا ليدوسَ تاريخهُ فرحًا، فينهرسُ تحتَ أقدامه ويتشظّى في كعبِ نعلهِ، وحين ينتهي من الرقص، يظنّ أنّه لم يكن قبلَ هذا، فيبقى في سبات ينتظرُ الآتي منه في خدر، تمامًا كهذه القطّة النائمة التي استقبلتني في باحةِ منزل الأديبة ميّ زيادة وسط البلدة القديمة في الناصرة، غير آبهةٍ بما تخلّفهُ ورائها من فضلات في مكانٍ عريقٍ كهذا.

كانَ البابُ منزويًا في ممرٍ رئيسيّ تحوّلَ إلى سوقٍ للخضار ومختلف البضائع، عندَ الدخولِ درجٌ شاميّ ممشوق القامة أمامي رغم هرمهِ، تجاوزت حجارتهُ مئات السنوات عمرًا، هو ذاتهُ من استقبل ميّ زيادة مذ ولدت في 18 مارس 1886، لأمٍ من الناصرة وأبٍ من لبنان قدِمَ خصيصًا ليمارسَ مهنةَ التعليم في فلسطين بعد أن طلبت منه الإدارة العثمانيّة ذلك، وكانت الأمّ مُدرِّسة بالمثل رغم قلّةِ الإناث العاملات والمتعلمات آنذاك.

درجتْ مي زيّادة خطواتها هنا، ذهابًا وإيابًا إلى مدرستها الابتدائيّة الخاصّة التي تبعدُ عشرات الأمتار فقط عن منزلها، وبقربِ المدرسة التي تحوّلت إلى ديرٍ تسكنه الراهبات، افترشَ أحدُ التجّار يبيع بضائعًا مختلفة للأطفال يصدر بعضها الأغاني على مسامع المارّة لإغراءِ أطفالهم، سألتهُ عن ميّ زيّادة- رحمها الله، فقال لي جادًا: "لقد مرّت من هنا قبل قليل، الحقي بها!"، ابتسمتُ في ذهولٍ ومضيتُ باحثةً عن بقاياها، ولكنّها بالتأكيد بعيدة مسمعًا وجوهرًا عن بعضِ سكّان مدينتها.

اكتملت فكرةُ النقصان حين حدثتني قاطنةُ منزلِ ميّ زيادة حاليًا، بأنّ من أتوا إلى المنزل للسكنِ فيه قبلها بعشرات السنوات، قاموا بإلقاءِ الكتب المتبقيّة خلف العائلة في القمامة حين استلموه للسكن. المصادر التاريخيّة تشير أنّ زيّادة ووالديها هجروا فلسطين إلى مصر في العشريّة الأولى من القرن العشرين، هي لإتمام تعليمها الأكاديميّ في القاهرة، ووالدها للعمل ككاتبٍ وصحفيّ في جريدة المحروسة. فلم أرَ من بقايا زيّادة سوى حجارٍ لم تحمل أوزارها وملامحٍ لبعضِ المتسائلين: "من هي هذه؟".

لم تكن المدرسة- التي جمعت طلابًا من دمشق وحمص وطرابلس وعكا والقدس والكفير، وغيرها من مدن الشام – تبعدُ عن بيت ميّ زيادة سوى سبع دقائق سيرًا على الأقدام وسنوات جحاف عن الحرّية بعد تحوّلها إلى سجنٍ

مئات الخطوات الخائبة وفي بالي ما قالهُ ميخائيل نعيمة في الجزء الأوّل من كتابهِ سبعون: "يا أرض الميعاد التي تدرُّ لبنًا وعسلًا، أين انتِ يا حُلم موسى وسبيّة يشوع بن نون، ويا حبيبة داود وسليمان، ويا ملهمة إشعيا وكاتب سفر أيوب، يا مسرحًا تعاقبت عليهِ أدوار أنبل حياة وفصول أفجع مأساة منذ مأساةِ عدن؟ وأين أنتِ يا ناصرة النجّار يوسف وخطيبتهِ مريم التي منها بطل تينك الحياة والمأساة؟ لله ما أبعدك يا أرض اللبن والعسل، وأبعد ناصرتك!".

كتب الأديب والمفكر ميخائيل نعيمة هذه الكلمات في سيرته الذاتيّة، واصفًا نفسهُ حين جرّب شعور الاغتراب لأوّلِ مرّة في صباه، يومَ قرر القدوم إلى فلسطين من جبل صنين في بسكنتا- لبنان، لينهل منها العِلم طامحًا باتّخاذ التدريس مهنةً له، فدرسَ في دار المعلمين الروسيّة بالناصرة- المسكوبيّة نسبةً لموسكو.

 لم تكن المدرسة- التي جمعت طلابًا من دمشق وحمص وطرابلس وعكا والقدس والكفير، وغيرها من مدن الشام – تبعدُ عن بيت ميّ زيادة سوى سبع دقائق سيرًا على الأقدام وسنوات جحاف عن الحرّية بعد تحوّلها إلى سجنٍ ومركزِ شرطةٍ اسرائيليّ يقفُ بمرصادِ الفلسطينيين إن همسوا باسمِ فلسطين في مظاهرةٍ أو وقفةٍ احتجاجيّة ما، ليدخلوا زنازين اسرائيليّة وغرف تحقيقٍ تحملُ أسماءَ وأرقامَ الصفوفِ المدرسيّة ذاتها التي تعلّم بها ميخائيل نعيمة.

هكذا تحوّلت المدارس إلى زنازين تأسرُ أهلها، ورثتها اسرائيل عن بريطانيا بعد أن حوّلتها لسجنٍ عقب انهيار الدولة العثمانيّة وخسارة حليفتها روسيا في الحربِ العالميّة الأولى، فما وطأ الجنديّ البريطانيّ البلاد حتّى طرد كلّ عنصرٍ أجنبيّ غيره- باستثناء اليهود، وقاموا باستبدال المدارس التابعة لدولٍ معادية إلى مراكز شرطة وسجون تخدم استعمارهم. ومما لا شكّ فيه أنّ للاستعمارِ أحيانًا حضنٌ ناعم يمسّدُ شعركَ بيد وبالأخرى يجهِّزُ مقصلتك، ولهذا يلتبسُ العرب في أحقيّة جهةِ استعمارهم دومًا، فهم يحتارون أيّ من الوسائد الشائكة أنعم، بل ويتقاتلون مع بعضهم البعض في الارتماءِ بحضنها.

لا يمكن القضاء على تاريخِ أمّةٍ ما إلا بهدم ثقافتها أو استبدالها بأخرى، وهذا ما عملت عليه الدول المتعاقبة على منطقتنا العربيّة، هذا هو قانون الغزاة بالسيفِ أو بالقلم. درسُ التاريخ الأسود كنهرِ دجلة بالعراق حين اصطبغ بحبرِ300 ألف كتاب ألقاهُ التتار عندما اجتاحوا مكتبة بغداد العريقة التي أسسها هارون الرشيد، فرموا بكتبِ التراث الاسلاميّ، السير، التراجم، الكيمياء، الفيزياء، الطب، الفلسفة، الرياضيات، الأدب والترجمات المختلفة، في المياه، حتى قيل أنّ الفارس التتري استطاع العبور فوق الكتب والمجلدات الضخمة من ضفة لأخرى.

أدركتُ أنّ قوانين التاريخ مائعة أحيانًا بحجم صرامتها، فالتاريخُ مغتربٌ لدى أهلهِ في الشرقِ، بعضهُ اغتصبهُ القويّ وتنازل عنه الضعيفُ من العربِ، ومنهم صاحبُ الحقّ الذي أنكر ذاتهُ في المرآةِ فذهبَ ليتقمّصَ بإرادتهِ أعجميًا ليس يألفهُ

"إلهي كم تضيقُ حلقةُ التاريخ البربريّ وتتكرر رغمَ تطوّرِ الإنسان، تبقى فطرتهُ الأولى في الهدم والتدمير باقية رغم كل الوسائل التي اخترعتها البشريّة للارتقاء"، قالت- افتراضًا-  مدينة تدمر الأثريّة التي يعود عمرها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد بعد أن هدمت داعش واجهة المسرح الرومانيّ والتترابليون بها. تدمُر المصنّفة في لائحة التراث العالميّ لمنظمة اليونسكو تعاقب على أرضها الكنعانيين والعموريين والآراميين، سادتها الملكة زنوبيا، ومع هذا لم يشفع لها الزمن بالنجاة، حالها أسوةً بباقي السوريين الثكالى.

اتّسعتْ رقعةُ السؤال السابق الذي طرحهُ ميخائيل نعيمة "يا أرض الميعاد التي تدرُّ لبنًا وعسلًا، أين انتِ؟"، إلى سؤال: "أين انتَ يا وطني العربيّ أجمع؟"، ولكنّ السؤال خفت في داخلي قبل أن يتوهج.

ولأنني أدركتُ أنّ قوانين التاريخ مائعة أحيانًا بحجم صرامتها، فالتاريخُ مغتربٌ لدى أهلهِ في الشرقِ، بعضهُ اغتصبهُ القويّ وتنازل عنه الضعيفُ من العربِ، ومنهم صاحبُ الحقّ الذي أنكر ذاتهُ في المرآةِ فذهبَ ليتقمّصَ بإرادتهِ أعجميًا ليس يألفهُ، وبعضهم الآخر ذاكرتهُ الحاضرة أتخمت بالجراح الكافية فما عاد يدري إن كان سيكتبُ التاريخ أم تاريخهُ يكتبُهُ، وآخرهم كهلٌ حافظَ على حفنةٍ منه لكنّه على وشكِ الموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.