شعار قسم مدونات

شبح اسمه الاكتئاب

مدونات - الأكتئاب

لست أخصائية نفسية ولا مدربة تنمية بشرية ولا دارسة علم نفس لكنني عشت اكتئابا في مرحلة من حياتي وعرفت أشخاصا عاشوه وذلك كاف في نظري للتحدث عن هذا الغول الذي يلتهم بشراهة أجمل أيام حياتنا ويخطف عن مقلنا النوم وعن أرواحنا السكينة.
 

تعيش في العشرين من عمرك لا تنام إلا ثلاث أو أربع ساعات في الْيَوْمَ، هالات سوداء تحفر أسفل العينين، شهية شبه منعدمة، وجع دائم في الرأس، تساقط شعر، وجه شاحب، جسد هزيل، صحة متذبذبة كثيرا وثقب في الروح أضناها، خوف من المجهول والمصير، أسئلة وجودية يظل صداها يرن حتى ساعات الليل المتأخرة، دوامات جارفة من (Overthinking) في واقعك والماضي والمستقبل وكل الأشياء سواء أكان لها معنى أم لم يكن.
 

لا أدري إذا كان هذا المصطلح معروفا كفاية أو إذا كان له اسم بالعربية الفصحى لكن تعريفه كالتالي: أن تنزوي في مكان سواء كان فارغا من الناس أو العكس والانجراف في التفكير، كالموجات اللامتناهية التي يشكلها الحجر الذي رُمي فوق سطح بحيرة، الفرق هو أن حركة هذه الموجات تتوقف بعد وقت قصير، عكس التفكير الذي لا يتوقف. أن تسرح في مشاكلك التي يأست من حلها منذ زمن، حتى قبل وقوعها.
 

تفكر في فرح ديبا زوجة شاه إيران الأخير قبل اندلاع الثورة الإسلامية، ثم تنتقل في لمح البصر إلى الرسامة (Frida Kahlo) وتتأمل في ملامحها، ثم تتذكر ذلك الْيَوْمَ الصيفي الحار الذي سمعت فيه خبر موت صديق طفولتك غرقا في البحر، لتتذكر بعدها أول نقطة سيئة حصلت عليها في الرياضيات وتلوم الأستاذ الذي كان صعب المراس والذي كان السبب في توجهك الأدبي وعدم تحقيق حلم أبيك في أن تصبح مهندسا وحلم أمك في أن تصير طبيبا، وحلمك أنت في أن تكون شيئا تريده، لكنك تنسى ماكنت تريد أن تصيره أصلا، أو بالأحرى تتناسى لأن لا أحذ ينسى ما حلم به يوما مهما كانت الظروف.
 

صرت منهكا، رغم سنك الصغير، انفجرت شيبتان في شعرك. عليك أن تسأل نفسك عن السبب، لماذا صرت شبح إنسان يعيش شبه حياة ولا يتمنى الموت؟ هل الأشياء التي جاءت بي إلى هنا تستحق فعلا أن أحزن لأجلها؟

تنغمس وسط ظلام غرفتك، أكواب قهوة شربتها عمرها شهر تزيد من ظلمة المكان، فرشاة أسنان بالية تجاوز عمرها ستة أشهر وأخرى جديدة لازالت في غشائها البلاستيكي لم تستعملها بعد، بقايا سندويتشات تفوح منها رائحة منفرة، بطاطا مقلية ذابلة، ستائر غبراء ونافذة لم تفتح منذ مدة، خمسة كتب من لغات مختلفة لم تكمل قراءتها، تبدأ كل يوم واحدا لتغلقه بعدما أشعرك بالملل بدوره، تبدأ في قراءة الثاني ليقوم بنفس الشيء لتتركه وهكذا دواليك. عشرة أفلام كذلك بدأتها ولَم تكملها لأنها مملة ولَم تشد انتباهك رغم حسن تنقيطها على IMDB، كل الأشياء التي كنت تقوم بها بشغف لم يعد لها طعم.
 

سرير لم يرتب منذ مدة، كرسي مثقل بالملابس المبعثرة التي لم تغسل ولَم ترتب في مكانها الأصلي منذ زمن، صار الكرسي يبدو كجبل مكتئب، كل شيء في الغرفة مكتئب حتى الصور والساعة التي تدق عقاربها بحزن معلنة عن ضياع وقت جميل منك، حبَّذا لو عشته خارج هذا الزمكان المر اللامتناهي الذي يخطف منك أجمل ما فيك، ابتسامتك وروحك.|
 

تقوم من سريرك لتجلس فوق الكرسي، تجده محملا عن آخره بالملابس التي لم تعد تعجبك، فتذهب إلى الباب لتحكم إغلاقه وكأن (Vikings) سيأتون لاقتلاعه وطبخ جسدك الهزيل وتقديمه كمقبلات على العشاء. تفكر في كل الندم الذي راكمته طيلة حياتك، عن الأشياء التي قمت بها وعن تلك التي لم تقم بها، تحاسب نفسك كأنك جلاد مكلف بالمقصلة، تحس بالوجع في بطنك، وجع طال ولَم تعرف سره رغم أن طبيب المعدة والأمعاء أخبرك أن معدتك سليمة، تحس بتأنيب الضمير وتبكي. هنا تنتقل إلى إسبانيا، منزل سالڤادور دالي بالتحديد، تتأمل في لوحاته شكلها الغريب والعميق، هل كان سالڤادور ذكيا أم كان مصابا بالاكتئاب مثلي؟

تفتح الحاسوب لتكتب شيئا لم تتوقعه على لوحة المفاتيح، (The symptoms of Depression)، تبدو لك النتائج حسب دراسة قام بها فريق عمل سويسري، فتتساءل عن سبب عدم انضمام سويسرا إلى الاتحاد الأوروبي على الساعة الثالثة فجرا، وتتساءل عن الاكتئاب في سويسرا، "لماذا يكتئبون رغم أن لديهم كل شيء؟". تتساءل لماذا أنت على هذه الصفحة لتتذكر أنك تبحث عن أعراض الاكتئاب، تبتسم ابتسامة منهزمة، وكأنهم يحكون عنك، الفرق البسيط هو أنهم استحضروا التفكير في الانتحار أو الانتحار. تقوم من مكانك.
 

تذهب إلى الحمام، تشعل النور، تنظر إلى وجهك الذابل وشعرك المبعثر، لطالما تفاديت النظر إلى وجهك في المرآة، كنت تخشى ما تخشاه، تتساءل هل فكرت في الانتحار؟ ربما لا لأنه قتل نفس بغير حق، لأن الدين يحرم الانتحار، تعود إلى سريرك وتشاهد مقاطع فيديو لعدنان إبراهيم ثم زغلول النجار مرورا بطارق سويدان ومحمد حسان ومدرب تنمية بشرية سمعت عنه الكثير من معارفك عشاق باولو كويلو.
 

تبحث في النت عن رقم طبيب نفسي معتمد، تأخذ موعدا، يسألك عدة أسئلة، يصف لك أدوية ويضرب لك موعدا آخر، تزوره كل أسبوع يوم الأربعاء بعد العمل. تحس أنك تتغير لكن دوامة التفكير تُعيدك من حيث بدأت أو أدنى. تفكر في ضرب أبيك لك ونهر أمك وكل الأشياء التي تمنتيها ولَم تحصل عليها، أصدقائك الذين خانوا والذين رحلوا وأولئك الذين تزوجوا واختفوا، قريبك الذي لم تمنعه من الذهاب فدعسته شاحنة عند مروره في الشارع العام.
 

تخرج من سباتك وشرنقتك الرمادية وتذكر نفسك بأن لا شيء دائم لا الفرح ولا الحزن دائم. فنحن لا ننجب مرة واحدة فقط من أرحام أمهاتنا، نُنْجَب من مشاكل الدنيا وصعابها في كل حين

تفتح كتابا من الكتب التي أهملتها منذ زمن، تباشر القراءة ثم تغلق الكتاب مرة أخرى. تفكر في غسان كنفاني واستشهاده، في نظرية داروين، في الانفجار العظيم، في نظرية المؤامرة والفراشة؟ ثم نيتشه؟ هل كان حقا مجنونا؟ تقوم لتصلي وتبكي بحرقة في السجود، لا تتمنى شيئا سوى أن تصير إنسانا عاديا لا يخوض حربا طاحنة مع نفسه كل وقت وحين.

تلتقي بما تبقى من أصدقائك، تتظاهر بالفرح ثم تنصرف لحجة اخترعتها للتو، تحملك قدماك إلى تلك الغرفة الحزينة التي صارت شريكتك في التفكير والمأساة.
 

صرت منهكا، رغم سنك الصغير، انفجرت شيبتان في شعرك. عليك أن تسأل نفسك عن السبب، لماذا صرت شبح إنسان يعيش شبه حياة ولا يتمنى الموت؟ هل الأشياء التي جاءت بي إلى هنا تستحق فعلا أن أحزن لأجلها؟ لماذا أدوس على زهرة عمري بهذه الطريقة المتوحشة؟ عليّ أن أسامح نفسي أولا على كل تلك الأشياء التي اقترفتها في حقها؟ عن الأرق والحزن والدمع؟ أن ألتقط فتاتها وألم شملها الذي تناثر هنا وهناك. يجب أن أحيا وأقود معارك مع الحياة، فوز وهزيمة ثم تعادل، فهي ليست بتلك السوء ولا بتلك البشاعة التي نتخيل. أنت تستحق الحياة وهي تستحق أن تعاش لأن لديك شيئا أسمى من كل شيء، لديك الحياة والإيمان بأنك تستحق وضعا أفضل من ذلك الذي عشته، وضعا لا يستطيع دواء ولا طبيب شفاءه غيرك، فالحياة ماهي إلا فن الشفاء من الأمراض والأعطاب والجروح المتوالية.
 

هي معركة طاحنة عليك أن تخوضها لتخرج بأقل الخسائر فقط. لا أحد سيجعلك سعيدا غيرك، كل شيء يذهب ويأتي إلا أنت تظل مع نفسك حتى النهاية "ما حك لك غير ظفرك وما بكى عليك غير شفرك".
 

تخرج من سباتك وشرنقتك الرمادية وتذكر نفسك بأن لا شيء دائم لا الفرح ولا الحزن دائم. فنحن لا ننجب مرة واحدة فقط من أرحام أمهاتنا، نُنْجَب من مشاكل الدنيا وصعابها في كل حين. تقوم وكأنك ولدت من جديد، تزيح الستائر، تفتح نافذة الغرفة تسقي النبتة التي أوشكت على الذبول ثم تنظر مبتسما إلى السماء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.