شعار قسم مدونات

مُربىٰ القُمامة

blogs برطمان

جلستُ مُتأملة العُلبة الزجاجية الفارغة التي أمامي، مُنذ ثوانٍ كانت تحشر بعض أشلاء قطع الفراولة التي صَمدت في وجه السكر والغليان لتتحول لمُربى يُشارك الطاولة صباحاً مع مجهولٍ ما. وددتُ الاحتفاظ بها واستخدامها لتخزين أي شيء آخر كما تجري العادة مع أي علبة فارغة، ولكنها أصغر من أن أحشر بها ثلاث حبات لوز لا أكثر، فمصيرها القُمامة!

 

قبل أن أُلقيها في السواد تساءَلت، ماذا لو كان بالإمكان حشر أي شيء من عالمي مهما كان حجمه وحبسه في هذه العُلبة والتخلص منه كأبسط من أبسط شيء في الدنيا!

 

الحقيقة أن الحيرة أكلتني، فقد فكرت بشخصيات عدة من محيطي وعالمي كجارتي أو حفيدة خالتي أو الفريق الرياضي الفُلاني، ومن ثَم فكرتُ بأماكنٍ مُعينة علَّ بعض الذكرى تُمحى من خلاياي بالتخلص من أماكنها، وبعدها انتقلتُ لمكونات الطعام كالزبيبِ مثلاً الذي يُرهقني فصله عن حبات الأرز في طَبَقي. ولكن صدقاً؛ ما الشيء الوحيد الذي بالتخلص منه سيجعل عالمي أفضل؟ عالمي مليء بالحروب، بالجوع، بالخيانة، النفاق والسكوت. والكثير من الوحشية، فهل الزبيب السبب؟

 

ماذا لو جمعت كل الأسلحة والقنابل الذرية والنووية منها، وكل الصواريخ والدبابات والذخيرة المُخبأة في مَعدةِ الأرض وحبستها في تلك العُلبة وقدمتها للقمامة؟ ولكن لا، فهُناك ديانات وطوائف وفصائل وانتماءات تفتك بعضها البعض باليد وقطع الرأس بسكين فواكه ناعمة!

 

تخيل معي عالماً خالياً من البشر، ستتحلل الكائنات لبترول يُساوي طاقة لا يستفيد منها الحصان في يومه، فَلَن يهمه ولن يُفجر اسطبل ابن عمه لأجل هذا الأسود المدفون. لن يحتاج العصفور لجواز سفر يفصل جناحه عن سمائه

حسناً، ماذا لو جمعنا بترول العالم وكل الكنوز الذهبية والماسية والسوداء منها وقلصناها لحجم حماقة هذه العُلبة، فهل سيكون حلاً؟ بالتأكيد لا، فما زالت القومية تفصلنا، هذا بجنسية وجواز سفر يسمح له بالسفر وتقاضي أربعة أضعاف مُرتب فُلان الذي يحمل جنسية تُشبه في قيمتها بطاقة دعوى لحفل زفاف ابن عمي! 

 

بعد التفكر والتأمل والبحث عن الشيء الوحيد الذي بالخلاص منه سينعمُ هذا الكوكب بالراحة والسلام، النتيجة كانت " البشر"! 

 

تخيل معي عالماً خالياً من البشر، ستتحلل الكائنات لبترول يُساوي طاقة لا يستفيد منها الحصان في يومه، فَلَن يهمه ولن يُفجر اسطبل ابن عمه لأجل هذا الأسود المدفون. لن يحتاج العصفور لجواز سفر يفصل جناحه عن سمائه، لن تُعاني أسماك المُحيط وكائناته البحرية من التلوث الذي يُفسد زُرقة ونقاء وطنها المائي وتتوعدها بالانقراض. حتى الأوزون لن يُعاني من ثُقبٍ يُزعزع غلافه، فلن تغزو الشمس كوكب الأرض وسينعم القطب ببرودته وتجمده الأبيض دون تهديده المُستمر بالذوبان ودفنه لليابسة، والأهم أنه لن يكون هناك أي كرسي لملك الغابة!

 

للأمانة، مُربى الفراولة من بعد هذا التأمل أصبح بلا طعم، أصبح حقيقة تقول بأنه سكر مُر، بأننا وإن تجملنا بالعلم أو الدين أو الحضارة، إلا أن القباحة مرسومة على نواصينا ومختومة على جوازاتِ سفرنا التي تجعلنا نحب الوطن وينتهي حُبنا عند حدود نفس الوطن. جهلٌ يجعلنا نُحب الكرسي ونفديه بملايين الأجساد. الكُرسي أصبح صنماً ويركع له الكثير من المُوحدين والمُشركين والمُلحدين. 

 

قيل مرةً "طول ما هي سايبة ومفتوحة على البحري شمال ويمين، طبعاً يتفرعن سين من الناس أو صاد أو عين"، أُهلِكَ فرعون قديماً وترك لنا آلاف الفراعنة من بعده، والآلاف من السين والصاد والعين، هامان من هُنا وحاشية من هُناك. وبين هذا وذاك نحن ننعم بطعمِ المُربى! وتلك العُلبة الفارغة؟ رفضت احتضان "البشر" حتى في القُمامة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.