شعار قسم مدونات

تعددت السجون.. والقيدُ واحد

blogs إضراب الأسرى

تحاورني صديقة من أحد أوطاننا التي تتكاثر فيها السجون وتستغرق في امتهان ضحاياها عن إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، تقول إنهم رغم كل معاناتهم أفضل حالاً من نظرائهم العرب في سجون أنظمتهم (الوطنية)، ففي بعض هذه الأوطان – مثل سوريا تحديدا- لا يجد الأسير لقمة خبز حتى يضرب عنها كرسالة احتجاج، بل يُترك كي يموت جوعاً ويخرج من السجن هيكلاً عظميا. ثم تستدلّ بحادثة وقعت معي شخصياً يوم أن حال وجود طفلي الرضيع قبل أشهر دون اعتقالي لدى الاحتلال، لإظهار حجم الفوارق بين واقع السجون في حالتنا الفلسطينية ومعادِلاتها في الأوطان العربية، حيث لا شيء يشفع لإنسانها، رجلاً كان أم إمرأةً أم طفلا، عند طغاتها وسجّانيها.

 

هنا، لا تبدو المقارنة ذات فائدة كبيرة، أقول هذا رغم معرفتي بحجم الفجيعة التي تنتجها السجون العربية، ظلماً وتعذيباً وقتلاً وتجويعاً وقهرا، لأنني إضافة إلى متابعاتي لواقع هذه السجون وأخبارها وتسريباتها فقد قرأت كتباً عديدة حولها، سواءً أكانت إطلالات تاريخية أو روايات أدبية أو سيرة ذاتية حقيقية لبعض من عايشوا تجارب مريرة بين جدرانها، وكثيراً ما كان يستوقفني شكل الإنسان؛ روحه وشعوره وقناعاته، بعد أن انعتق منها وتحرر من جحيمها، لأن معاينة الأثر الذي يصنعه العذاب القاسي لجسد الإنسان ولمس تلك الندوب التي يخلفها في وجدانه لا يقلّ أهمية عن معرفة واقع السجون نفسه ورصد فظائعه.

 

إن سنوات النضال الفلسطيني طويلة ومريرة ومتعبة، لكنها غير متوقفة، فكذلك حال أسراه، لأنهم امتداد ذلك النضال، بل ساقيته الأعظم التي أحيا ماؤها رمضاءه، وجدد خطواته، وأنعش سيرته

ومع ذلك أقول إن المقارنة بين سجن وآخر ليست هي القضية الأساسية، فالقيد يبقى قيداً حتى لو كان مرصعاً بالماس، والسجن يبقى سجناً حتى لو طُليت جدرانه بألوان الطيف، وتسللت من شقوق نوافذه الشمس طوال النهار، والإنسان المقهور يبقى إنساناً مهما كان شكل سجانه ولغته وهويته، والقلوب التي يظللها الأسى لغياب أحبّتها خلف القضبان ويمطر غيم الوجع في فضائها لن يواسيها كثيراً كون ذلك الغياب مترفاً أم عسيرا.

 

لكنّ القضية الأساسية هنا أن حالة الإضراب في السجون الفلسطينية تظلّ عنواناً لإرادة الصراع في نفوس رواده، وومضة البقاء في عيون الذين طوت السجون أعمارهم، فبعضهم أكلت السجون ثلاثين عاماً أو يزيد من حياته، وكما أن سنوات النضال الفلسطيني طويلة ومريرة ومتعبة، لكنها غير متوقفة، فكذلك حال أسراه، لأنهم امتداد ذلك النضال، بل ساقيته الأعظم التي أحيا ماؤها رمضاءه، وجدد خطواته، وأنعش سيرته. ففي إضرابهم تعريف أكثر عمقاً لمفهوم المقاومة، لأنه سيكتسب معنى البحث عن أي هامش -ولو ضئيل- لصناعة لحظة انتصار على المحتل أو السجان، وفعل المستطاع لحمله على التنازل، ولو بتلبية عدد من مطالب الأسرى، ولأن فيه استلهاماً لكلّ معنى يُجسّد الانبعاث والحركة والمغالبة. وفي الإضراب عن الطعام إيذان بأن إحساس الكرامة يتفوّق على لسع الجوع، وأن مساحة الزنزانة المحدودة قد تغدو فضاءً رحباً حين تصهل خيول المعركة من خلف جدرانها، وحين ترتفع رايات التحدي من أكف ساكنيها. 

الإضراب عن الطعام لن يعني أبداً أن عدوّنا أكثر إنسانية من طغاتنا إذ يرضخ لمثل هذا التمرّد بعد حين، فليس الخوف على حياة الأسرى أو صحّتهم من يحمل المحتل الصهيوني عادة على الاستجابة لمطالب الأسرى أو التفاوض حولها وصولاً إلى تسوية معينة في كل إضراب، بل هلعه الدائم من تلك الشرارة التي قد تنقدح خارج السجون فتصنع دائرة لهب غير قابلة للاحتواء، تطيح بحالة أمنه أو استقراره الموهوم، فها هنا محتل يريد أن يغالب منطق الأشياء وحتمية التاريخ، لأنه يروم استقراراً وأمناً وجبهات هادئة من حوله مع استمرار احتلاله وتمدد سرطان استيطانه، ولأنه يريد أن يوظّف كل تحوّل لصالحه وأن يستغل كل حدث لتمتين وجوده. ووحدها أحداث التحدي الكبرى من تُنازِل إرادة المحتل تلك وتُردي انتفاشتها.

 

صحيحٌ أن السجن يبقى جرعة موت، مخففة في بعض السجون، وثقيلة في أخرى، وتكاد تتفوّق على الموت قسوةً في أخرى، لكن القيد واحد، ومثله مدى الزنزانة، مهما كانت رحبة. ومع ذلك فإن دروس استثمار كل لحظة تعين على التمرد أو تغيير الواقع تبقى هي الأبلغ، لأن نقيضها الركون إلى إكراهات القوة، والاستسلام تحت أرتالها، والسماح للقيود بأن تحفر في المعاصم عميقاً وبأن يغور أثرها إلى القلوب فيفتك بنور الحياة فيها، ومتى انطفأ في القلوب إحساس الحياة وذوي رونق العنفوان فإن قابليتها للتعايش مع الظلم ستتمدد، ومثلها استساغة العيش بلا كرامة، وفي ظل أصفاد المستبدّين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.