شعار قسم مدونات

ومن العُمق ما قتل!

blogs قراءة

إن البُعد الإنساني العميق الذي ينبع من مكنون النّفس ويصل بها إلى جوهرها وينأى بها عن تشرذمها وضياعها وغيّها وبغيها، ويسعى لأن يصل إلى ذلك المكنون ويتصل بعد ذلك بما هو أسمى، لهو بالأحرى شعورٌ يرنوا إلى وصل المترادفات واستدعاء الإيحاءات.
 

هل رأيت كم أنا عميق؟! 
هل فهمت شيئاً مما كتبته؟!
أنا أيضاً لم أفهم!

بمثل هذه الأساليب كنت أحاول الإجابة على سؤال بسيط من صديقي، ربما لم يتوقع أن يسمع هذا الكمّ من الألفاظ الغريبة، ولم يتوقع أن تكون إجابتي عقيمة، نعم عقيمة وليست عميقة، فصديقي يبحث عن الجواب، يبحث عن البساطة، وأنا بحثت عن التعقيد والغرابة، لأجد نفسي في النهاية عاجزاً عن الإجابة وعاجزاً عن لفت انتباه صديقي مرة أخرى، فالحقيقة التي لا مفر منها أنه هرب!

إذا كنت قارئاً نهماً وصاحب اطلاع واسع، وعميق في أفكارك وطرحك، فأنا لا أقلل من قيمتك، فهذه ملكة ونعمة من الله لك، ولكن تمهل!! فمثلك هنا مثل أبي تمام الشاعر حين قيل له: لماذا تقول ما لا يفهمه الناس؟ وكان رده: ولماذا لا يفهم الناس ما أقول..؟!!

يا صديقي العميق، أنت تماما كغوّاص محترف يمتلك أدوات ثمينة تُؤهّله للغوص في أعماق البحار، فماذا لو أنك مرة وبعد إتمامك لرحلة غوص مثيرة، فوجئت عند خروجك بصاحبك يسألك أن تصف له الجمال المستقرّ في الأعماق، ذلك الجمال الذي حرم من معاينته وتاقت نفسه دائماً لرؤيته، فوجد فيك ضالّته وبادر بالسؤال!
 

يا صديقي العميق لعلّك قد امتلكت أحدث أدوات الغوص، ولكنك لم تمتلك أداة واحدة تمكنك من عرض الجمال الكامن في الأعماق ولا آلة تصوير لتنقل بها الصورة، ولا حتى لساناً يتسم بالبساطة ويراعي الفروق والمستويات

وبدلاً من أن تشرع في الحديث عن ذلك الجمال، إلا أنك فاجأته بدعوته للغوص معك في الأعماق، غير آخذ في حسبانك أنه لا يستطيع الغوص ولا يمتلك أدوات مثل التي معك، إلا أنك لم تحفل بكل هذا وباغته وسَحَبته معك إلى الأسفل ولم تكترث لعدم قدرته على التنفس حينها، بل إنك تعجبت من عدم فرحته وعدم استمتاعه في الأسفل، فهو لم يرد إلا الأوكسجين، لكنك لم تستوعب ذلك إلا عندما شاهدته يتفلت منك ويهرع إلى الأعلى مُحاولاً النجاة.

بدأت تستوعب الخطأ الذي اقترفته في حقه، والذي كاد أن يتسبب بموته، فهو لم يرد الغوص معك ولم يطلب ذلك، هو أراد أن تُنقل له الصورة وفقط.. ولعله بعد ذلك وعلى حسب إبداعك في الوصف قد يتشجع ويحاول يوماً أن يغوص هو الآخر عندما يمتلك الأدوات بالطبع!

يا صديقي العميق لعلّك قد امتلكت أحدث أدوات الغوص، ولكنك لم تمتلك أداة واحدة تمكنك من عرض الجمال الكامن في الأعماق ولا آلة تصوير لتنقل بها الصورة، ولا حتى لساناً يتسم بالبساطة ويراعي الفروق والمستويات.. فليس كل الناس مثلك وليست العقول على قدر واحد من الفهم فهذا معلمنا وقدوتنا "صلى الله عليه و سلم" يقول: "أُمرنا معاشر الأنبياء أن نُخاطب الناس على قَدر عقولهم" ، فالعمق لا يقتلك وإنما قد يقتل فكرتك!

أعرف جيداً أنه من الصعب أن نُلقي القبض على المعاني وأن نسجنها في الكلمات؛ وإذا فعلنا فهي دائماً تهرب، ولكني لا ألتمس العذر لمن يتفنن في تعقيد الأمور أكثر من اللازم، وقد كان الأديب الروسي تولستوي يقول: "إن الفلسفة الواضحة هي التي يستطيع صاحبها أن يشرحها في عشر دقائق".

ذات مرة أثنى الأديب الكبير عباس العقاد على الكاتب المصري الشهير أنيس منصور بل وأعجب بأسلوبه، ولكن أنيس منصور قال: أنا حزين جداً فالعقاد قد أعجبه أسلوبي، وأنا لا يعجبني أسلوب العقاد! فهو صعب وشاق.

ولعل أنيس منصور كان يسير على نفس خطى العقاد في بداية مسيرته ، فقد روى موقفاً عاشه في شبابه فيقول :"كنت ألقي قصيدة من نظمي في ذكرى المولد النبوي، وكان من الحاضرين الشيخ حسن البنا المشرف العام للإخوان المسلمين، وبعد أن القيتها سألني في أبوّة: وأنت يا ولدي ماذا تدرس؟ فقلت له متحمساً: طالب في قسم الفلسفة يا أستاذ.. فقال: هذا واضح.. ولكن لا تنس يا ولدي أن هؤلاء الناس بسطاء.. أناس اعتادوا على أن يسبحوا في القنوات الصغيرة الضّحلة، فلا تُرغمهم على السباحة في المحيط"

عندنا مثل يقول "الزبون دائماً على حق" وأنا أقول أن القارئ والمستمع والمشاهد أيضاً دائماً على حق! يجب أن تصل له الفكرة ويفهم المغزى من قولك فهذا هو مقياس نجاحك، غص كما أحببت وعلى العُمق الذي تريد لكن لا تنسى أن هناك من ينتظرك وهو متلهف لسؤالك، فلا تحرمه من لذة الاستماع إليك.. كن عميقاً في تفكيرك بسيطاً في طرحك.. حاول أن تقترب أكثر من أذن القارئ ومن عينه ومن عقله.. اقطع المسافة بينك وبينه في أسرع وقت وبأقل جهد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.