شعار قسم مدونات

أقل من أربع ساعات حياة

blogs - الكهرباء في غزة
إذا أراد الإنسان أن ينجح في الرياضيات عليه أن يتعلم جدول الضرب في البداية، وإذا أراد أن يعيش هنا عليه أن يحفظ جدول الكهرباء. إنَّ جدول الكهرباء يمثل صمام الحياة في هذه البقعة من العالم، فمن المعلوم أن كل شيء في هذا العالم أصبح مرتبطًا بالكهرباء تقريبًا، وإذا انعدمت الكهرباء انشلت معالم الحياة.

يستطيع الإنسان العيش إذا نسي جدول الضرب لكنه إذا ما غفل هنا عن جدول الكهرباء يكون فعليًّا غفل عن حياته، هنا حيث الاسم الكبير غزة والمعاناة الأكبر التي يسمع الناس عنها كثيرًا ولا يستشعرونها إلا قليلًا.

قبل أيام هدد ضابط صهيوني كبير بأن إمدادات الكهرباء ستتوقف عن غزة بالكامل، ويوم أمس أعلنت سلطة عباس نيتها إيقاف إمداد غزة بالكهرباء في تبادل أدوارٍ واضح

وإن كان شرح المشاعر يفسدها أحيانًا، فإنني سأكتفي بوضعكم أمام الواقع الذي نعيش في ظل أربع ساعات وصل كهرباء في أفضل الأحوال هذه الأيام، وقطع لها يتجاوز العشرين ساعة.

قد تبدو هذه الجملة عابرةً للبعض وسطحية لا معنى لها، سردية لا تستحق الوقوف عندها مع أنها تقف على صدورنا وأنفاسنا وتعمل معها حياتنا وتتعلق بها، فالكهرباء ليست ضوء المصابيح فقط، إنها غسالة المنزل ومصعد العمارة وآلة المصنع وماكينة الخياطة وحاسوب الطالب وبطارية الهاتف وماكينة الحلاقة ومطحنة القمح وثلاجة الأطعمة.

هي هواء المراوح ونسمات المكيفات في الصيف الحار وهي المدفئة في الشتاء، ولكم أن تتخيلوا بأنه بات من الرفاهية أن يتمكن الإنسان في غزة من أخذ حمام ساخن في هذه الأيام، فإن توفرت الكهرباء لساعات بالكاد تمتلئ خزانات المياه وبكل تأكيد ما أن تبدأ المياه بالتسخين تنقطع الكهرباء وقد تنقطع الكهرباء دون التمكن من ملئ الخزانات، وكثيرًا ما تنقطع المياه عن البيوت في بعض الأحيان لأيام.

على المرأة هنا أن تكافح، ونعم نساء غزة، جد مكافحات حين يقاومن صلف الحياة هنا ويكفي سهرهم واستيقاظهم في منتصف الليل لغسل الملابس أو خبز العجين أو الكوي أو حتى التنظيف أو جلي الصحون حتى لا تفوتهم ساعات الكهرباء، فهذا الجدول متقلب المزاج ومتطفل جدًا.

نحن كثيرًا لا نفهمه لكننا مضطرون للتعايش معه، يزورنا صباحًا فنستقبله ويزورنا وقتما يشاء حتى بعد ساعات من العشاء ولا نستطيع أن نقول له لا، فنحن الذين نحتاجه لا هو، ومهما فعلنا لا ينتظم ويتقطع كثيرًا ولا ندري رغم ترحيبنا الشديد فيه كثيرًا ما يمتنع، ليته يعلم حجم شوق ذلك الطالب له حيث ينتظره كما لو كان مواعدًا حتى منتصف الليل، ليته يسمع أنات قلب ذلك العامل الذي يتلهف إليه حتى لا يضيع نهاره في الانتظار دون عملٍ في المنجرة أو المحددة أو المطحنة أو المطبعة أو الملحمة.

اليوم بتنا لا نعرف عدونا من صديقنا، اليوم نقف هنا في وسط الخذلان لكن مهما تجبر المجرمون وتكبروا فإن الله أكبر ولا غالب إلا الله.

ليته يدري بالقعيد ينتظر عند باب المصعد ليصل إلى منزله في الطابق العاشر، ليته يدري بالعريس يطوف ليلته باحثًا عن خياط عنده كهرباء لحياكة ملابس الزفاف، ليته يعلم أنها المصانع والمصالح التي باتت تعمل لتأكل المولدات ويبقى لأصحابها الفتات، ليته يعلم بكساد السوق ونقص الأموال فيزداد، ليته يعلم بأنه حياتنا المعيشية وتفاصيلها فلا يضيق علينا، أو ليته يسمع حجم ضجيج صغار الحارة فرحة بقدومه، ليته يسمع أو يشعر، ليته وليته وليته.. لكننا نخاطبُ جمادًا كما نفعل حين نخاطب جل هذا العالم بمؤسساته وحكوماته.

نحن نتحدث عن أربع ساعات من الحياة لا الكهرباء فقط، وقبل أيام هدد ضابط صهيوني كبير بأن إمدادات الكهرباء ستتوقف عن غزة بالكامل، ويوم أمس أعلنت سلطة عباس نيتها إيقاف إمداد غزة بالكهرباء في تبادل أدوارٍ واضح لخنق هذه المدينة وإعدام الحياة فيها بالكامل.

اليوم بتنا لا نعرف عدونا من صديقنا، اليوم نقف هنا في وسط الخذلان لكن مهما تجبر المجرمون وتكبروا فإن الله أكبر ولا غالب إلا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.