شعار قسم مدونات

رأسي بات غسالة

blogs تفكير

تعود إلى تلك المشاهد. بنفس القسوة والإصرار. لا أستطيع طردها من مخيلتي. أتابع نهاري كالمعتاد. أعد القهوة وأضع وجبة غسيل. أضبط عيار الحرارة وزمن دوران الغسالة. غسالتي جديدة، من النوع الصامت. تؤدي عملها ولا تصدر هديراً. أعود إلى طاولة العمل وارتشف قهوتي. أرسل إيميلات، أحرر نصوصاً، أجيب على اتصالات. أضحك وأمازح أصدقائي على واتساب. الغسالة تدور. لا أسمعها، لكنها تدور.

 

أجوع، فأعد لنفسي سندويشاً سريعاً. أعود إلى ركني أستأنف العمل. أرسل إيميلات، أحرر نصوصاً، أجيب على اتصالات. أحجز موعداً لدى طبيب الأسنان، أستعد لدرس اللغة، أكتب بوست على فايسبوك، والغسالة تدور. لا أسمعها، لكنها تدور. والمشهد نفسه في رأسي، يدور، ويدور ويدور. منذ الأمس عاد ليلازمني كأنه ظلي. كأنه انعكاس لشاشة اللابتوب، أو الصفحة الرئيسية لأي موقع أتصفحه، أو الموسيقى الخلفية لسياق نهاري، كتلك النغمات البائسة التي نسمعها في المصعد وردهات الفنادق وتكاد أحياناً تفقدني صوابي. رأسي نفسه يدور. بصمت، وبلا ضجيج من خارج، يتقلب من داخل، يتحشرج، يستريح هنيهة، ثم يعاود الدوران. رأسي بات غسالة.

 

الغسالة تعود للدوران. أيعقل أن تستعيد الذاكرة المشهد نفسه مراراً وتكراراً بكل أمانة وبلا أي تحريف؟ سأستعين بصديقتي غيدا. هي معالجة نفسية وتعلم خبايا الأمور. تلك التي تهدر في جوف الغسالات ولا يكشفها المظهر الهادئ

أخاف. لا أريد أن يصيبني ما أصابني منذ بضعة سنوات. لكن مؤشراته هنا، أمامي. تبدأ بألا يفارق المشهد ذاته مخيلتي، ثم يلاحقني الى مرقدي. اقول أنني الآن أصبحت أكثر حصانة، فقد سبق لي أن اختبرت ذلك الكابوس وخرجت منه. لذا، فأنا الآن قادرة على إطفاء الغسالة. سأقوم عن طاولتي، وأهمل عملي لبعض الوقت، وأضغط زر التوقف. أعلم أن بعض الفوضى قد يحصل كأن تتسرب المياه خارج الحوض، ويبقى بعض الثياب على اتساخه، ويتكتل مسحوق الغسيل في حجرته. لا بأس. قد أعيد الغسيل غداً، أو بعد غد، لا يهم. المهم الآن أن يتوقف الدوران. أذهب إلى النادي الرياضي، أتعرق. أركض بسرعة أكبر لأنني أرغب في أن أتعرق أكثر. أريد لذلك الخوف المقيم أن يخرج من مسامي. أنسى المشهد. أقوم ببعض تمارين الاسترخاء، أستحم، وأفترس وجبة طعام كمن نجا من جوع عتيق. أجري اتصالاً أو اثنين، أضحك. أتابع خبراً، أحزن.

 

الغسالة تعود للدوران. أيعقل أن تستعيد الذاكرة المشهد نفسه مراراً وتكراراً بكل أمانة وبلا أي تحريف؟  سأستعين بصديقتي غيدا. هي معالجة نفسية وتعلم خبايا الأمور. تلك التي تهدر في جوف الغسالات ولا يكشفها المظهر الهادئ. سأتصل بغيدا فور الانتهاء من هذه التدوينة. أعلم أنها ستقول لي إن الكتابة الذاتية فعل تفريغ، وتساعد أحياناً على تجاوز المحن. لم أقتنع عندما قالت لي غيدا ذلك منذ بضع سنوات، ودافعت عن الكتابة بصفتها حرفة، ومهنة، وشأن عام كما كانت بالنسبة لي قبل أن أبدأ هذه الورطة، ورطة التدوين. عموماً بت مقتنعة إن غيدا تقول ما يجب أن يقال.

 

هي تزن كلماتها بميزان الذهب. فور انتهائي من الكتابة، سأتصل بها وأقول لها "تذكرين ذلك الكابوس الذي تملكني منذ سنتين ولم يعد يفارقني؟" ستصحح لي (بطبيعة الحال) إنه مضى عليه نحو 4 سنوات. سأفاوضها، لأنني غالباً ما أنسي احتساب الوقت والزمن. وستقنعني بدليل إن "ابنة اختك تجاوزت الـ 5 سنوات ونصف". بالفعل كان العام 2013. كان عمرها أقل من سنتين ربما عندما تحولت ابنة أختي مادة لذلك الكابوس الذي لا يفارقني. كنت غاضبة جداً، وبدأت أحلم كل ليلة، وعلى مدى أسابيع متواصلة انني ألعب مع ابنة اختي. مهلاً هل يجب أن أتحدث عن ذلك؟ أتردد الآن وأنا أكتب. فماذا لو غضبت أختي لأني جعلت ابنتها مادة كتابة علنية؟ سأقول لها إنه التدوين، يحتمل فوضى المشاعر وتناقضها. هدفه أصلاً الكتابة الذاتية. غداً، أستيقظ وأكتب مقالاً موضوعياً، متوازناً ورصيناً، فيما أشرب القهوة، وأضع وجبة غسيل صامتة.

 

أخبرتني غيدا آنذاك أنني شديدة التأثر بما أرى وفي "لاوعيي" أخاف الفقد. نصحتني بممارسة الرياضة والابتعاد قليلاً عن الأخبار. أبلغت غيدا يومها إنني سأمارس الرياضة لأنني أصلا بحاجة لفقدان بعض الوزن، وأنني مسؤولة عن وعيي

الآن الغسالة تدور. ورأسي يدور. ويجب أن أضغط زر التوقف، مهما حصل من فوضى. أعود الى اللعب مع ابنة أختي فإذا بها تغفو وسط اللعب. أحاول منعها. أحملها وأصرخ "لا حبيبتي، لا تنامي… لا تغفي!" وأراها تشهق فلا أعلم إن كانت تتنهد لتستيقظ أو لتغط في سباتها. وفي كل مرة، وكل ليلة، على مدى أسابيع، كنت أستيقظ قبل أن أعرف النتيجة. هل غفت؟ هل استفاقت؟ أعتقد أنني رحت أكرر الحلم لأعرف الخاتمة… لأستريح.

 

أخبرتني غيدا آنذاك أنني شديدة التأثر بما أرى وفي "لاوعيي" أخاف الفقد. نصحتني بممارسة الرياضة والابتعاد قليلاً عن الأخبار. أبلغت غيدا يومها إنني سأمارس الرياضة لأنني أصلا بحاجة لفقدان بعض الوزن، وأنني مسؤولة عن وعيي. أما لا وعيي فأرفع مسؤوليتي عنه! لا علاقة لي به ولا بما يقترفه من حماقات. ترددت كثيراً في البوح. لكنني لا أريد للكابوس نفسه أن يتملكني من جديد. سأحصن نفسي في وجهه، إذ لا أريد لصورة أطفال نيام أن تقضني كما فعلت سابقاً وفعلت بالأمس. اليوم أريد لابنة أختي أن تكبر وتقرأ خوفي. أريدها أن تعلم سبب ذلك الكابوس الذي عاد إلى بعدما ظننت أنني طويته. سأوقف الغسالة في رأسي لأروي لها كيف أن أطفالاً آخرين مثلها ناموا… ناموا فحسب. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.