شعار قسم مدونات

العلمانية والتدين

blogs - secular
لا يُمكننا طرح مقابلة بين الدين والعلمانية لأن الذي يُوجد بشكل ملموس هو التديُّن، لا التجربة الدينية الحيّة التي هي جوهر وأساس الدين كحالة يعيشها المتديِّن. إن الذي يوجد في الواقع هو غالبا أفكار ومعارف وعقائد وممارسات ناتجة عن تجارب دينية سابقة، وعن التاريخ الديني كفكر وممارسة واقعية في الماضي، وأيضا عن التاريخ كمتخيّل، وليس انفعالاً دينيّا حقيقيّاً حيّاً وراهناً.

فهناك فرق بين الإيمان والتديُّن الناتج عن انفعال وتفاعُل ديني حقيقي، والأيديولوجيا أو الاعتقاد القائم على التقليد أو على المعارف الدينية المنجزة مثل اللاهوت، والتي يتم اتخاذها كأساس معرفي وفكري للدين، بدلاً عن التجربة الدينية الشخصية.

 

إن الكلام عن فصل الدين عن الدولة إذن لا يمكن أن يكون المقصود به جوهر الدين كتجربة حية يعيشها الإنسان كفرد، لأن هذه التجربة لا يمكنها أن تتعلق أساسا بالدولة ولا بالاجتماع أو السياسة أو المعرفة

في مقال سابق بعنوان "نقد الفصل بين الدين والتديُّن" أوضحت أن القول بوجود دين مفارق ومتعالي هو بحد ذاته إيمانٌ وتديُّن، إذ لا يمكننا الكلام عن الدين بهذا المعنى إلا من خلال الإيمان، الذي هو تديُّن.

والتديُّن عندما يعبِّر عن نفسه في المعرفة والسياسة والاجتماع يصبح نشاطا إنسانيا لا يرتبط بالدين كتجربة يعيشها الإنسان إلا على مستوى النوايا والبواعث المقاصد والانفعال الداخلي الذاتي، ولكن الشيء الملموس من هذا التعبير هو الموضوعي الذي يُوجد في اللغة والفكر والسياسة والاجتماع، أو بكلمة واحدة، الذي يوجد في التاريخ.

فإذا كان الإنسان يعبّر عن تدينه سياسيا على سبيل المثال، فإن الملموس هُنا هو الموقف السياسي المحدد المتجسد في التاريخ، وهذا الموقف بحد ذاته لا يملك أي صفة دينية متعالية أو مقدسة، مهما كان الشعور الكامن وراءه شعورا دينيّا.

 

إذن، ما هو تديُّن لا يُمكنه أن يوجد بصفته تديُّنا عندما يُعبَّر عنه في التاريخ معرفيا أو سياسيا أو غير ذلك، ناهيك عن وجوده كدين مفارق.

 

إن الكلام عن فصل الدين عن الدولة إذن لا يمكن أن يكون المقصود به جوهر الدين كتجربة حية يعيشها الإنسان كفرد، لأن هذه التجربة لا يمكنها أن تتعلق أساسا بالدولة ولا بالاجتماع أو السياسة أو المعرفة، فهي توجد في مستوى آخر مختلف، مستوى الذات الحرة التي تتفاعل بشكل فردي مع الوجود أو مع المطلق أو الله.

وهذه الذات عندما تعبِّر معرفيا وسياسيا واجتماعيا عن تديُّنها فهي تفعل ذلك في مستوى مختلف عن مستوى التجربة الدينية، هو المستوى الموضوعي. فحتى لو كنت أعتقد أنني أتعبّد الله من خلال الكفاح الفكري والسياسي، فإن التجسُّد الواقعي الملموس لأفكاري وأفعالي ومواقفي الفكرية السياسية ليس هو جوهر تجربتي الدينية وإنما هو نشاط دنيوي علماني من وجهة النظر الموضوعية.

وذلك لكونه يستهدف قضايا الوجود الدنيوي التاريخي الفكرية والسياسية وغيرها، وفي الوقت نفسه فهو يعبِّر عن نفسه من خلال أدوات التفكير والعمل الإنسانية الدنيوية الموضوعية، مثل اللغة والعقل ومن خلال مختلف أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي (مثل الجماعة/التنظيم/ الحزب/مؤسسات المجتمع/مؤسسات الدولة) الخاضعة للشروط التاريخية المحددة التي يوجد فيها الإنسان دائما. وهذا قد لا ينفي كونه تديُّنا بالنسبة لي، مهما كان عُمق خبرتي الدينية، ولكنه تديُّنٌ على مستوى النوايا والبواعث، وليس على مستوى التجسُّد الواقعي الملموس، ففي الواقع يُوجد إنسان ومواقف فكرية وعملية، هي ليست تديُناً على هذا المستوى، وإنما فكر أو معرفة أو سياسة الى غير ذلك.

 

وعليه فلا يُمكن اعتبار الفصل بين الدولة كمؤسسات وقوانين محايدة وبين أشكال التعبير المختلفة عن الإيمان والتديُّن والاعتقاد في مختلف مناحي الحياة هو فصلٌ بينها وبين الدين، هذا الوصف خاطئ ومُضلِّل.

 

فالمؤسسات والقوى السياسية والاجتماعية التي يُطلق عليها صفة "الدينية" والتي يُنظر لها على أنها التمظهُر الاجتماعي والسياسي للدين كما تطرح هي نفسها أيضاً على أنها كذلك، هي في الواقع ليست دينية بالمعنى الحقيقي للدين. إنها ببساطة قوى اجتماعية مثل غيرها، تعبر عن نفسها، عن رؤيتها، عن تطلعاتها، مصالحها، وهي بلا شك تستلهم الدين كما تجسد في تجارب سابقة وفي نصوص، ولكن هذا الدين المتجسِّد في التاريخ واللغة يختلف عن الدين كتجربة حية عاشها الأنبياء والقادة الدينيين، والذين هم أنفسهم عندما ينخرطون في التاريخ الموضوعي، عندما يعبِّرون معرفيا واجتماعيا وسياسيا عن تديُّنهم وإيمانهم فإنهم يفعلون ذلك وفقا لشروط التاريخ الذي يعيشون فيه، وهنا ينفصل التجسُّد التاريخي للدين عن التجربة الدينية كانفعال حي أصيل عاشه الناس الذين صنعوا هذا التاريخ والذين صنعهم  التاريخ كذلك.

 

إن التديُّن الحقيقي والحُر والذي يسمح بإمكانية تجارب دينية وإيمانية حقيقية ممكن فقط في ظل دولة تكفل الحقوق والحريات للفرد وللجماعات المختلفة، لا دولة تطبِّق وتفرض ما تعتبره الرؤية الرسمية والصحيحة للدين.

إذن، قبل الكلام عن فصل الديني عن السياسي أو فصل الديني عن المعرفي ينبغي التأكيد على أن المقصود ليس هو الدين كشيء لا يوجد أساسا إلا كتجربة ذاتية حية يعيشها إنسان فرد، ولا تعيشها مجموعة من الناس، شعبٌ أو دولة.. تنظيمٌ أو حزب، فالدين بهذا المعنى ليس تجربة جماعية. أما أشكال التعبير الجماعي عن التديُّن كالشعائر الجماعية ومختلف أشكال التضامن الاجتماعي والسياسي فهي توجد في مستوى آخر، مستوى مختلف عن مستوى التجربة الدينية التي هي النواة الأساسية للدين، وهذه المظاهر الدينية الاجتماعية ليست بالضرورة تعبّر عن تجارب دينية فردية حية وحقيقة، فقد تكون الشعائر -كما في غالب الأحيان- مجرد طقوس شكلية ينخرط فيها الناس تقليداً..

بينما أشكال التضامن الاجتماعي و السياسي هي تعبير عن حاجات واقعية تمليها الظروف التاريخية، فليس كل أيديولوجيا اجتماعية أو سياسية -"دينية" هي تعبير عن نيّات تديُّن حقيقية، بل قد تكون تعبيراً عن حاجات واقعية مادية كما هي دائما في أغلب الأحيان. مثلما أن العقيدة الدينية نفسها ليست بالضرورة إيمانا حيّا وفرديّا حُرَّا، وإنما قد تكون مجرد تقليد، خصوصا في المجتمعات التي يغيب فيها الفرد الواعي الحُر.. عقيدة جامدة باردة بلا توتُّر ولا انفعال وحرارة، بل شيءٌ يتم اعتناقه تلقينا وتقليدا والتمسُّك به بصلابة وتعصُّب. وحتى حينما تعبِّر الأيديولوجيا عن نيات وبواعث تديُّن وإيمان فهي توجد في الواقع السياسي والاجتماعي كأيديولوجيا، لا كدين.

 

إن العلمانية قبل أن تكون صفة للدولة تكون بموجبها محايدة تجاه الأشكال المختلفة من الإيمان والاعتقاد والتعبير الديني، هي وعيٌ بالإنسان، وبالدين أيضا. لا يُمكننا أن نحمل تصوراً خاطئاً عن الدين ونساوي بينه وبين هذه المؤسسات والأفكار والمعارف والعقائد، والقوى والشخصيات التي تلحق نفسها بتجارب تاريخية للدين اقتداءً واستلهاما أو تقليدا لها، ثم نقول يجب فصل الدين عن الدولة. هذه صياغة خاطئة للقضية. الصياغة الصحيحة تبدأ بعد تحديد جوهر وماهية الدين، وتمييزه عن مختلف أشكال الثقافة والاجتماع والسياسة والأيديولوجيا التي يعبِّر خلالها الإنسان والمجتمع عن نفسه، عن حاجاته وتطلعاته ومصالحه المشروعة بكل تأكيد، وغير المقدسة في الوقت نفسه.

 

فالقضية ليست مواجهة ضد/مع الدين كبُعد أصيل من أبعاد الوجود الإنساني، وإنما هي مواجهة يُمكن أن تكون في صالح الدين كتجربة يعيشها إنسان بلا فرض ولا وصاية ولا تدخُل من مؤسسات تمنح نفسها الصفة الدينية، وتستخدم قوة الدولة لفرض رؤيتها على الأفراد.

 

إن التديُّن الحقيقي والحُر والذي يسمح بإمكانية تجارب دينية وإيمانية حقيقية ممكن فقط في ظل دولة تكفل الحقوق والحريات للفرد وللجماعات المختلفة، لا دولة تطبِّق وتفرض ما تعتبره الرؤية الرسمية والصحيحة للدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.