شعار قسم مدونات

الإفساد باسم الإصلاح

blogs- قرأن
تتحدث الأديان السماوية عن الإنسان بمعيار ما فيه من خير لنفسه أو لغيره، أو بما فيه من شر وضرر على نفسه أو متجاوزا إلى غيره، وتصف تلك الصفات بدقة متناهية، لأنها صفات تلازم البشرية عبر تاريخها الطويل، ولا تنفك عنها، بينما لا تهتم الكتب السماوية كثيرا ببدن الإنسان ونسبه وسلالته ولو كان نبيا من أولي العزم من الرسل، وما وقع من ذلك فهو مرتبط بتلك المعايير…

وبناء عليه فقد قسم القرآن الكريم الناس في مطلع سورة البقرة، إلى ثلاثة أقسام أوجز التعبير عن المؤمنين به والكافرين به، لوضوح أمر القسمين، وتباعد الشقة بينهما، وأطنب في بيان أوصاف القسم الثالث بالمقارنة للقسمين السابقين، وعبر عن هذا القسم بقوله تعالى: ( ومن الناس من يقول منا بالله وباليوم الاخر….) وظهر هذا القسم الثالث في الملة الإسلامية بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة، وظهور الدين كقوة لها سلطان يهابه الناس مهما كانت اهتماماتهم السياسية، ومكانتهم الاجتماعية.

من الإفساد في الأرض باسم الإصلاح، التقارب مع العدو الخارجي المتربص بالأوطان حتى يكون أحدهم كالتابع المستخدم في تحقيق المطامع الاستعمارية ولو على نفسه وبلده.

واعتبر الإسلام في نظامه السياسي هؤلاء الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم حزبا سياسيا يقف في وجه نشر الدين والتمسك به، متخذا في ذلك وسائل متعددة بالدعاية الكاذبة ونشر الإفك والإشاعات المغرضة عن النبي صلى الله عليه وسلم والمقربون منه من المهاجرين والأنصار الذين ينظر هؤلاء لهم كعقبة قوية في وجههم للوصول إلى أطماعهم السياسية التي كانت تدفعهم للعمل السياسي وتربطهم بغير المسلمين من العرب وغيرهم، فيلتقي هؤلاء مع الأعداء في الدين في السعي للكيد للحق وأهله.

فإذا تأكد ذلك السعي الفاسد لمن حولهم ممن يحرصون عليهم وخاطبوهم خطاب النصح والشفقة، وقالوا لهم: ( لا تفسدوا في الأرض) جازمين لهم بواقع سعيهم وأنه فساد في الأرض يتجاوز ضرره وخطره إلى الغير ردوا عليهم: ( إنما نحن مصلحون) ومعلوم أن الإفساد والإصلاح لا يلتبسان على أحد، وإنما لفساد فطر هؤلاء وتعودهم على الكذب الذي يفسد النفوس والضمائر، تجرؤا على النطق بهذا النقيض الذي يكذبه واقعهم، لأن الشرائع الربانية السماوية هي التي تصون للإنسان حقوقه وتوضح له طريقه، وتسد أبواب التعدي عليه بما تشرحه للناس من الواجبات والحقوق، وبما يترتب على تفويت ذلك من الفتن والحروب والشرور.

ولأن الناس إذا اعتمدوا على أهوائهم ومطامعهم الآنية انتشر التظالم بينهم، وضاعت الحقوق وتركت الواجبات، لذا قال تعالى لمن يسعى في تحصيل السلطة حسب رغبته واتباع الأهواء: ( فهل عسيتم إن توليتم ان تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، لأنه لا يمنع الإنسان عند التمكن من السلطة السياسية والسلطة المالية والقوة العسكرية من الظلم للخلق إلا الوازع السماوي، أو الوازع الأرضي كنظام يحميه الدستور ويقف خلفه الشعب الواعي لمخاطر التسلط والاستبداد، فإن عدما فقد قال المتنبيء: "والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم"

وهذا الحزب السياسي الذي عامله النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن معاملة لمعارض عبر التاريخ استمر في الوجود بأشكال مختلفة فإذا أتيحت له فرصة التمكن من السلطة ظهر مدلول الآية في ممارساته السياسية التي من أوضحها الإفساد في الأرض المعبر عنها بتقطيع الأرحام، وتعطيل الأحكام، واتباع الأهواء في التعامل مع الأمور التي من شانها أن تكون مبنية على الخبرة والرأي والمشورة، فيعم بذلك الإفساد في الأرض بتعطيل المصالح، والوقوف في وجه المصلحين من ذوي الخبرة والعقول الراجحة بتهميشهم أو سجنهم أو نفيهم أو تصفيتهم بمحاكمات مفتعلة أو بدون محاكمات.

ظهر هذا القسم الثالث في الملة الإسلامية بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة، وظهور الدين كقوة لها سلطان يهابه الناس مهما كانت اهتماماتهم السياسية، ومكانتهم الاجتماعية.

ومن الإفساد في الأرض باسم الإصلاح، التقارب مع العدو الخارجي المتربص بالأوطان حتى يكون أحدهم كالتابع المستخدم في تحقيق المطامع الاستعمارية ولو على نفسه وبلده،…ومعلوم أن الميل للأعداء يزيدهم طمعا في أهل ملته ومجتمعه ويتجرؤون بذلك على سوء استغلال العلاقات السياسية والاقتصادية فيكون هذا حزب يفسد في الدين والدنيا بدعوى أنه يريد الإصلاح على حد قول الله تعالى في أسلافهم من السابقين: ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم..) فالإحسان والتوفيق بين المصالح البشرية والمجتمعية والدولية، التي لابد أن تتناقض وتتضارب في نواحي عديدة، تنافي الإصلاح المزعوم وتحوله إلى خنوع ومطاوعة مهينة..

وما رأينا أحدا من هؤلاء الموصوفين يقوي علاقاته بالدول الاستعمارية إلا كان ذلك على حساب دينه وبلده، وشدة وقسوة على النابهين من بني جلدته، فيتضح للناس أكثر فأكثر أنما يدعيه من الوطنية كذب فاضح، وما يزعمه من الإصلاح إفساد كاشح، وهكذا عندما يضعف في الناس وعي مقاومة الباطل وأهله، يتجرؤ أهل الإفساد على المزاعم المضللة، فلا يقبلون من ناصح مشفق عليهم وعلى وطنه نصحا بل يردون عليه بأنهم هم المصلحون بينما الله تعالى يرد عليهم وعلى أسلافهم هذا الزعم بقوله:( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) فهم قد فقدوا مجرد الشعور بما فيهم من واقع يناقض افتراءاتهم الإصلاحية! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.