شعار قسم مدونات

قُبحٌ جميلٌ

blogs - زواج
قديما قال الشاعر بشّار بن برد:


تعشّقتها شمطاء شاب وليدها… وللنّاس فيما يعشقون مذاهب

وقال بهاء الدين زهير:
 

قالوا تعشّقتها عمياء قلت لهم… ما شانها ذاك في عيني ولا قدحَا
بل زاد وَجدي فيها أنها أبدًا… لا تُبصر الشيب في فؤادي إذا وضحَا

وذُكر أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها: يا بثينة ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل.فقالت: يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك. قال: فكيف رأيتيه في عشقه. قالت كان كما قال الشاعر:

لا والذي تسجد الجباه له… مالي بما تحت ذيلها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها… ما كان إلا الحديث والنظر
 

شواهد تُوحي بذاك الرفض المجتمعي لكل ارتباط أو زيجة لا تنسجم ومعايير الزواج التي سطّرتها الأعراف وتمسكت بتلابيبها العادات العربية خصوصا كأن تكون الزوجة صغيرة، جميلة، ولودًا… رفضٌ يدفع في كثير من الأحيان إلى فضول مذموم، و اقتحام سافر لحياة الآخر، الذي انسلخ من قيود المجتمع، واختار تلبية نداء قلبه بعيدا عن كل الحسابات الجوفاء، فلا يملك المحبّ الصّادق غير الدفاع عن قناعاته، والذود عن اختياراته بدل الاستسلام لرحى النّقد المجتمعي.

الجوهر باقٍ والمظهر زائل، والعين ليست المعيار الأوحد للقياس  بل هناك العقل، والقلب، فجواب العين وحدها إنما هو ثلث الحقّ، ومتى قيل: ثلث الحق، فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل.

أقول هذا الكلام وأنا أتابعُ حمّى السخرية والتهكم تجتاح مواقع التواصل وهي تُبصر صور الرئيس الفرنسي الشاب الذي ولج قصر الإليزيه وهو في عقده الرابع، رفقة زوجته العجوز بريجيت ترونيو. موجة استنكار عارمة صاحبت كل الصور، التي يظهر فيها الزوجان على وفاق وانسجام، غير مكثرتين بثرثرة الناس، زواج كما قيل بين تلميذ وأستاذته، استهجنه الكثيرون سواء بوطننا العربي المحافظ أو بالمجتمع الغربي المتفسخ.

ما الذي أغرى شابا في عقده الثاني، بمعلمته التي تكبره بخمس وعشرين سنة، وأي قوة امتلكها هذا الشاب جعلت السيدة العجوز تخرّ صريعة بين يديه.. قد تخفق كل التحليلات في حسم الموضوع، إن كان فعلا مرتبطا بمشاعر صادقة جمعت الطرفين. وقد نرفض الاقتناع بأن الشاب الوسيم يستطيع تحمل النظر لزوجةٍ شاخ جسمها، وكثرت تجاعيدها، واحدودب ظهرها.

لكن معايير القبح والجمال تتباين تبعا لقناعات الأشخاص، وما نكرهه من وجه، قد يكون هو الذي نحبه من وجه آخر، إذا نحن تركنا الإرادة السليمة تعمل عملها الإنساني بالعقل والقلب، وبأوسع النظرين لا أضيقهما. كما قال الرافعي، الذي صاغ مقالة راقية في فلسفة الجمال والقبح بكتابه وحي القلم، أكّد من خلالها أنّ الأصل في جمال الإنسان جوهره وكنهه، لا صورته وشكله.

فالجوهر باقٍ والمظهر زائل، والعين ليست المعيار الأوحد لقياس الجمال أو القبح بل هناك العقل، والقلب، فجواب العين وحدها إنما هو ثلث الحقّ، ومتى قيل: ثلث الحق، فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل.

ولهذا ما إن رأيت تفاعل الناس مع هذا الحدث حتى قفز إلى ذهني كلام الرافعي في مقالته، وتلك القصة الجميلة التي ساقها عن زواج مسلم بن عمران بامرأة دميمة، عاش معها أسعد أيام حياته، وأنجب منها أجمل صبيانه.

يقول مسلم متحدثا لأحمد بن أيمن كاتب ابن طولون عن حبه لزوجته الدميمة: إني لا أحب المرأة الجميلة التي توصف، وليس بي هوىً إلا في امرأة دميمة، هي بدمامتها أحب النساء إليّ، وأخفهنّ على قلبي، وأصلحهنّ لي، ما أعدِلُ بها ابنة قيصر، ولا ابنة كسرى. ص176.

و يقول في موضع آخر: ما أحبّ إلا امرأة دميمة قد ذهبت بي كلّ مذهب، وأنستني كل جميلة في النساء، ولئن أخذتُ أصفها لك لما جاءت الألفاظ إلا من القبح، والشَّوهةِ، والدّمامة، غير أنها مع ذلك لا تجيء إلا دالة على أجمل معاني المرأة عند رجُلها في الحظوة، والرّضا وجمال الطبع، وانظر كيف يلتئم أن تكون الزيادة في القبح هي زيادة في الحسن وزيادة في الحب، وكيف يكون اللفظ الشّائه، وما فيه لنفسي إلا المعنى الجميل، وإلا الحسُّ الصّادق بهذا المعنى، وإلا الاهتزازُ، والطرب لهذا الحسّ. ص177.

يقول مسلم بن عمران: إني لا أحب المرأة الجميلة التي توصف، وليس بي هوىً إلا في امرأة دميمة، هي بدمامتها أحب النساء إليّ، وأخفهنّ على قلبي، وأصلحهنّ لي، ما أعدِلُ بها ابنة قيصر!

ولعلّنا لسنا بحاجة لطلب الشواهد التاريخية، والقصص العربية أو الغربية ونحن نملك أصح الشواهد من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي سطّر أنبل وأروع قصص الحبّ وهو يحيا بمعية أمنا خديجة رضي الله عنها 25 سنة، ما عاب سنّها قط، ولا تذمّر من فارق السّن بينهما، بل عاشا في وفاق وانسجام تامين، وظلت أواصر المحبة بينهما متينة قيد حياتها وبعد مماتها.

حتى أنّ أمّنا عائشة قالت ذات غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم: "مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا"، فقال عليه الصلاة والسلام: لا وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهَا، وَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي وَكَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي مِنْ مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَوْلادَ مِنْهَا، إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاء.

وذكري لهذا المشهد الراقي من السيرة النبوية العطرة ليس للتشبيه بين الحدثين، فشتان ما بينهما طبعا، لكني نظرتُ للأمر من الزاوية الإنسانية، التي تفرض علينا كبشر أن نتقبل اختيارات الآخر ونكفّ ألسنتنا اللاذعة حين يختار أحدنا شريكا لحياته يختلف عن معايير الانتقاء المجتمعية، وينسجم مع معايير الانتقاء القلبية، حين يغوص أحدنا في جوهر العلاقات الإنسانية ويتعالى عن سفاسف الأمور وحسابات الحياة الضيقة، حين يوقن أن المرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.