شعار قسم مدونات

نعمة الفشل

blogs - human

إذا كنت تنزعج من كلمة الفشل، فالأفضل لك أن لا تكمل القراءة، وإن قرأتَ ووجدتَ المكتوب غير مفيد، فبإمكانك اعتبارها تجربة كتابة فاشلة، تستطيع أن تتعلم منها عدم تكرار الأسلوب الخاطئ في الكتابة. أجد في نفسي رغبة للحديث عن المواضيع مهضومة الحق في الكتابة عنها بسبب طبيعتها المرحلية، كالمراهقة في سبيل النضوج والفشل في سبيل النجاح والذنب في سبيل التوبة، ولأن الكُتّاب اعتادوا الحديث عن وسائل النجاح وقصص الناجحين، بما يقترب احيانا من الأساطير، والاكتفاء بمجرد الإشارة العابرة إلى الإخفاقات السابقة للنجاح، فسأتحدث عن الفشل في السياق الطبيعي للحياة وسيكون له دور البطولة في هذه المقالة.

وطبعا لا يخفى على القارئ أنني أقصد بالفشل الإخفاق في الحصول على الهدف، في سياق تكرار المحاولة والاستفادة من الأخطاء لا في سياق اليأس وانقطاع الرجاء. هل سبق لك أن شاهدت طفلاً صغيراً يحاول المشي على قدميه لشهور عديدة قبل أن ينجح، أو حيواناً حديث الولادة وهو يحاول الوقوف على قدميه فيتعثر لعشرات المرات، تلك هي القصة باختصار.
 

كم من عثرةٍ درأت عن المرء مصيبة أكبر وكم من خسارة عصمت صاحبها من خسران أعظم، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام ما يشير إلى ذلك.

الحياة التي تسير بوتيرة واحدة، حتى وإن كانت حياة مريحة، هي حياة تبعث على الملل، واللون الوحيد للحياة يُسبِّب التضجّر وفقدان الإحساس حتى لو كان لوناً بهيجاً، فوجود الألوان القاتمة يعطي للحياة معنى على الأقل لإظهار بهجة الألوان الأخرى بالمقارنة. الضوء الذي يسير في خطوط مستقيمة ينتج عنه الكثير من الظلال، لكن قليل من الانكسار والانعكاس لمساره يسلط الضوء على زوايا خفية في الحياة ما كانت لتظهر لولا كسر وتيرة الخط المستقيم. الخطوط المستقيمة لا تتيح دوما الحلول المثلى في الحياة، فقد يضطر الإنسان إلى كسرها، قطعها، ثنيها، ليّ عنقها للوصول إلى هدفه. كذلك الأصوات، تكتسب جمالها من تغير وتيرتها بين ارتفاع وانخفاض، وتبدو نشازاً عندما تبقى على طبقة واحدة وإن كانت طبقة عُليا.

حسناً، كانت تلك إذاً أمثلة نظرية لما قد يعتبر في ظاهِرِه انكساراً أو فشلاً بالمعنى النظري، لكنه قمة النجاح في الواقع الوظيفي. في أحداث الحياة يقال أن الرصاصة التي لا تقتلك تزيدك قوة، والمرض العارض يزيد رغبتك في الحياة والتمسك بها والإحساس بنعمة الصحة والفراغ المغبون فيهما كثير من الناس، وفي بعض العثرات ما يجعل من الحياة بعدها ولادة جديدة، إذ أنه، وكما يقال، بأن البشر لا يولدون فقط يوم أن تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على ولادة أنفسهم بأنفسهم ثانيةً ولمراتٍ عديدة.
 

في الآية القرآنية البليغة "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، الخير له جوانب متعددة قد لا يدركها الإنسان في وقتها، لكنه ما يلبث أن يتبيّنها، ويشكر القدَر الذي سخرها له، فكم من عثرةٍ درأت عن المرء مصيبة أكبر وكم من خسارة عصمت صاحبها من خسران أعظم، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام ما يشير إلى ذلك، فما بدا خسارة في خرق السفينة مثلاً، كان ربحاً حقيقياً بالحفاظ على مستقبلها ومستقبل مالكيها وتجارتهم من سطوة الظالم وإن بدا لموسى أنه إفساد لحاضرها في إشارة إلى استراتيجية النجاح التي تقوم على تحمل الإخفاقات المرحلية، ووسائل التواصل الاجتماعي ملأى بالعديد من المقاطع المصورة لعثرات كانت سبباً في الحفاظ على أرواح أصحابها من الهلاك المحقق.

الفشل المؤقت يعيد الزخم للحياة ويحرك الرواكد، كما الحياة الزوجية التي تتجدد بالمشاكل والخلافات الزوجية العابرة والتي تعيد الدفء إلى الأرجاء بعد سكون الوتيرة الواحدة.

الأخطاء في سياق الحياة كما النجاحات تضاف إلى رصيد الإنسان في بنك الخبرات، ومع الاستفادة منها تصبح ثروته كبيرة جداً، حيث ستقلِّل من معاناة صاحبها فيما بعد بالقدر الذي أتعبته عند حدوثها، والألم الذي يحصل بسببها سيُخصم مقدماً من عبء الآلام المستقبلية المتوقعة، كما أن للإخفاق دور مهم في تجديد الدوافع للعمل في الحياة وهي فرصة جيدة لإعادة النظر في الأمور وتجديد الأفكار وآليات العمل.

وفي أقل أحواله، فإن الفشل المؤقت يعيد الزخم للحياة ويحرك الرواكد، كما الحياة الزوجية التي تتجدد بالمشاكل والخلافات الزوجية العابرة والتي تعيد الدفء إلى الأرجاء بعد سكون الوتيرة الواحدة. الطالب الذي تعود على التفوق دوماً، سيحتاج لمرة فشل واحدة على الأقل ليكسر حاجز الخوف الدائم من الاخفاق الذي يظل يسيطر على شعوره ويزيد من حدة الضغط النفسي، كما يحتاج لأكثر من مرة فشل لكسر حدة الغرور الذي يعميه عن الشعور بمعاناة غيره، كذلك ليصبح معلماً ناجحاً يعرف ما معنى الإخفاق والا فإنه سيكون من نوعية المعلمين العباقرة في ذواتهم لكنهم لا يستطيعون إيصال أفكارهم لتلاميذهم لذات السبب.

عزيزي الناجح، إن لم يكن ما سبق مقنعاً لك بأهمية الفشل في الحياة، فليس أقل من أنك عندما تعايش تجربة خارج سياق نجاحاتك المتكررة، أن تشعر بمعاناة الناس من حولك، كالصيام الذي يفرض عليك فيجعلك تشعر بجوع الفقير طوال حياته، فتمد له يد العون وتساعده على تجاوز اخفاقاته، ليضاف إلى رصيد نجاحك نعمة الإحساس بمعاناة الآخرين التي لا يملكها كثير من الناس .حسناً، أنا أعترف للفشل بالفضل، حتى قبل أن أرقى معارج النجاح، وأحمد الله على تجاربي الفاشلة كما الناجحة، فكلاهما جناحي طائرتي التي تروم التحليق نحو المعالي بأمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.