شعار قسم مدونات

أشلاء روح ممزقة

blogs - حرية

رأيت الكثيرين، أذرعهم ممزقة وأرجلهم مبتورة، لكن كل ذلك لا يعني شيئًا بجوار أشلاء روح ممزقة؛ لا يوجد أية جراحة لهذا النوع أبدًا.. Colonel Frank Slade – scint of a women

(1)
تشارلي سيمز طالب فقير استطاع الحصول على منحة للدراسة بإحدى المدارس الثانوية الداخلية، وهي مدرسة مرموقة في أمريكا يقصدها الأثرياء وأصحاب النفوذ والعائلات الكبيرة؛ كي تؤهل أبناءهم لتولي المناصب الكبرى. تشارلي على وشك التخرج منها، والحصول على منحة جامعية، أَهلَه لها تفوقه وحسن سلوكه.

يقود الحظ العاثر تشارلي يومًا ليشهد بصحبة زميل له ثلاثة من الطلاب وهم يعدون فخًا لمدير المدرسة، ينصرف تشارلي وصاحبه وهم لم يستوعبوا ما الذي يُعده زملاؤهم بالضبط، وفي الصباح يقع المدير في الفخ، تتم إهانته ببالون يسكب الأصباغ على جسده بالكامل أثناء دخوله الصباحي للمدرسة؛ ليصير أضحوكة الجميع، ويستطيع المدير العلم بأن تشارلي وزميله شاهدا من أعد الفخ.

زميل تشارلي، جورج ويليس من عائلة ثرية وكبيرة، فحدود المدير في الضغط عليه للشهادة على زملائه ليست كبيرة خاصة بعد أن تعذر بأنه لم يكن يرتدي منظاره الطبي، يحاول المدير الضغط على تشارلي مهددًا إياه بالطرد من المدرسة، والحرمان من المنحة الجامعية إن لم يعترف على زملائه، تشارلي يرى هذا الاعتراف بقطع النظر عن خطأ زملائه= اعترافًا غير أخلاقي.

يهدده المدير، ويخبره بأن اللحظة الحاسمة هي لحظة مجلس التأديب الذي ستعقده المدرسة صباح الأحد وتستدعيه فيه للشهادة.

في نهاية نفس أسبوع الحادثة يذهب تشارلي لعمل يستعين به على نفقات حياته، حيث سيصاحب ضابط جيش أمريكي أثناء غياب عائلته، وهذا الضابط يحتاج لمرافقة؛ لأنه سبق وأن تقاعد لإصابة في عينه أعمت بصره.

يعاني تشارلي في إجازة نهاية الأسبوع هذه، الكثير من شراسة أخلاق ضابط الجيش اليائس من الحياة هذا، لكن تنشأ بينهما صداقة بعد أن منعه تشارلي من الانتحار.

في بداية الأسبوع يتفاجأ تشارلي بالكولونيل سلايد، صاحبه ضابط الجيش يدخل ليجلس بجواره في جلسة التأديب مدعيًا أنه أُرسل بوكالة من صديقيه والدي تشارلي.

تبدأ المحاكمة بافتخار مدير مدرسة (بيرد) أن مدرسته هي مهد الزعامة ومحضن العظماء تخرج منها رؤساء للدولة ورؤساء للحكومة وأصحاب مناصب كبرى في أمريكا وغيرها، وأنهم هنا اليوم للتأكيد على أخلاقية المدرسة وعلى عقاب كل من يتجاوز قيمها.

وينجح مدير المدرسة في الضغط على والد جورج ويليس؛ ليجبر ابنه على اعتراف جزئي غير مؤكد بأسماء الطلبة الثلاثة الذين أعدوا الفخ، ويُدلي جورج بهذا الاعتراف شاعرًا بالعار مستسلمًا لضغط والده الجالس بجواره؛ لينتقل المدير ليحصل على المصدر المؤكد الوحيد للاعتراف وهو تشارلي، ويرفض تشارلي هذا الاعتراف ويؤكد أنه شهد ثلاثة طلبة يشبهون أي ثلاثة طلبة في مدرسة (بيرد).

يوشك المدير على إنهاء الجلسة مقرًا أنه فشل في الحصول على اعتراف مؤكد، وأنه يشكر جورج ويليس على صراحته وإن لم يستفد بها، وأنه ليس أمامه خيار إلا طرد تشارلي سيمز من المدرسة لرفضه التعاون؛ ولأنه كذاب محتال ليس طالبًا يجدر به البقاء بمدرسة بيرد. وهنا يتكلم الكولونيل فرانك سلايد مخاطبًا مدير المدرسة وأعضاء مجلس التأديب قائلًا:

 

  • هذه ليست سوى مهزلة، تشارلي ليس بحاجة لأن يُلقب بأنه طالب جدير بمدرسة بيرد، ما شعاركم هنا في هذه المدرسة؟، يا أولاد كونوا عيونًا على زملائكم في الخفاء وأي تقصير في هذا سنعدمكم حرقًا؟!

• عندما تحتدم الأمور بعض الناس يفر وبعض الناس يبقى واقفًا في صلابة، لدينا هنا تشارلي يقف يواجه الأمور، وجورج ويليس يختبئ في جيب أبيه، وماذا تفعل أنت؟ تكافئ جورج وتدمر تشارلي.

• لا أعرف من قصد هذه المدرسة وتخرج منها، سموا من شئتم، كل أولئك أرواحهم ميتة، هذا لو كان لديهم أرواح أصلًا، أنت تبني سفينة من الواشين الخونة هنا، وإذا كنت تعتقد أنك تُعد هؤلاء الأولاد ليكونوا رجالًا= فأعد التفكير ثانية؛ لأن الذي أراه هو أنك تغتال كل ضمير حي تزعم أنك تبنيه في هذه المدرسة.

• أنا هنا لأخبركم أن ضمير هذا الفتى حي، هناك شخص هنا لن أفصح باسمه عرض عليه أن يبيع ضميره، غير أن تشارلي لم يقبل بهذا العرض.

• لقد مررت بالكثير في هذه الحياة، ولقد شهدت الكثير، شهدت أولادًا كهؤلاء ورجالًا أكبر، رأيت الكثيرين، أذرعهم ممزقة وأرجلهم مبتورة، لكن كل ذلك لا يعني شيئًا بجوار أشلاء روح ممزقة؛ لا يوجد أية جراحة لهذا النوع أبدًا.

• أنت تريد أن تعيد هذا الجندي الذي بجواري لدياره يجر أذيال الخيبة، وأنا أؤكد لك أنك هنا تحكم على ضميره بالإعدام.

عندما دخلتُ لهذه القاعة سمعتك تتكلم عن مهد الزعامة ومحضن العظمة، حسنًا: عندما ينكسر غصن الشجرة يسقط المهد محطمًا، صناع الرجال والقادة: انتبهوا بحذر واسألوا أنفسكم: أي نوع من القادة والزعماء تنتجونهم في هذه المدرسة.

لستُ قاضيًا في محكمة ولا أدري هل صمت تشارلي اليوم صائب أم لا، لكني أستطيع أن أقول لكم: إنه أبدًا لن يبيع ضميره؛ ليشتري مستقبله، وهذا هو ما يدعى بالأمانة والشجاعة، وهذا ما يجب أن يُصنع منه الزعماء.

كلما كنت آتي لمفترق طرق في حياتي، كنت دومًا أعرف ما هو الطريق الصواب، لكني لم أسلكه أبدًا في حياتي، أتعرفون لماذا؟

لأنه طريق صعب وشاق، وها هو تشارلي قد أتي عند مفترق الطريق، وقد اختار لنفسه طريقًا هو طريق الصواب، طريق يقوم على المبدأ الذي يقود للخلق القويم، دعوه يكمل مشواره، احموه ولا تدمروه، وإني أعدكم أن تفخروا به يومًا ما.

 

(2)

إن الذي أبصره كولونيل سلايد في تشارلي هو أن استعداد هذا الولد الصغير لاتخاذ خيار يراه أخلاقيًا مضحيًا في سبيله بمستقبله ليدل دلالة عظمى على جودة معدنه ونزاهته واستقامته

إن الدرس الأهم في خطاب سلايد/باتشينو السابق هو آخر مقطع فيه، وكيف أن الحياة هي عبارة عن مجموعة من التحديات الأخلاقية، ومفترقات الطرق التي يتوجب عليك فيها كل مرة الاختيار فيها بين الباطل السهل المغري، وبين الحق المملوء بالأشواك. لا يوجد من يحسن الاختيار على الدوام. ولا تستوي طرق الباطل في عسرها وقدرتك بعد اختيارها على العودة لاختيار الصواب. ولا توجد عودة مستحيلة. لكن ينبغي أن نتفق أن هناك خيارات معينة، تجعل العودة لنقطة الاختيار الحر أصعب بكثير.

يُعظم الماديون الوضعيون حرية الاختيار عند الإنسان ويجعلونها أعظم دلائل عظمته، وأظهر تجليات عقله، ونبتة الإنسانية التي يجب رعايتها فردياً ومجتمعياً. وكل ذلك خطأ.

وليست مجرد حرية الاختيار هي مناط عظمة الإنسان؛ إذ مجرد الحرية لا يفيدنا، ماذا اختار الإنسان وهل اختار الحق أم الباطل؟ ولذلك تجد أولئك الماديين لا يحقون الحق إلا قليلاً ويعظمون خيارات الإنسان ولو كانت باطلاً تمجه النفوس السوية والفطر السليمة، ولولا خوفهم من أن يتهارشون تهارش الحمر بهذه الحرية = لما وضعوا قوانين تقيدها. إنما مناط عظمة الإنسان حقاً هو في قدرته أن يختار الحق ولو كان مراً.

عند مفترق الطرق يتجلى للإنسان كل طريق بحسناته وسيئاته، وحين يختار الطريق الشاق العسير فقط لأنه يعتقد أنه صواب = هنا تتجلى العظمة. عظمة الإنسان هي في قدرته على الانتصار على هواه وقمع رغباته لصالح قيمه وما يعتقد أنه الحق.

وتصيب هذه العظمة أن تكون عظمة في نفس الأمر حين يكون طرف هذا الحق ومعياره هو الوحي. هذا هو موطن العظمة وما يذكره أولئك حماقة لا غير.

إن الذي أبصره كولونيل سلايد في تشارلي هو أن استعداد هذا الولد الصغير لاتخاذ خيار يراه أخلاقيًا مضحيًا في سبيله بمستقبله= ليدل دلالة عظمى على جودة معدنه ونزاهته واستقامته وأنه أهل لأن يُحسن الاختيار كلما مر به مفترق طرق، ولأن يحسن العودة إن ضل الطريق يومًا.

والذي ينبغي أن تنتبه إليه أنت: هو أن جودة الاختيار عند مفترقات الطرق ليست شيئًا ينشأ عفوًا هكذا بلا جاهزية مسبقة واستعداد قديم، بل الحقيقة أن ذلك لا يتأسس إلى على سابق تدريب طويل تكون قد أخذت فيه نفسك بعزائم الاختيار كلما أمكنك، مُنحيًا الترخص وسهل الطريق إلى الهامش كلما أمكنك، وذلك مهما كانت موضوعات الاختيار تبدو لك تافهة، فذلك وحده هو ما يصنع في داخلك جاهزية الاختيار الصائب عند المنحنيات الكبرى في حياتك.

 

(3)
إن الإيمان بالله عز وجل والتمسك بدينه والتزام وحيه=لا يمكن أن يحصل للإنسان بالأماني، ولا يثبت في القلب ويجري على الجوارح بمجرد الدعوى. وإن إهمال ما أتت به الشريعة لبناء المناعة الإيمانية وصناعة جاهزية الاختيار= يؤدي بالإنسان لأن ينزف دينه وأخلاقه مع كل خيار ضال حتى تتمزق روحه.

 

لذلك فإن التأمل فيما جاء به النبي صلة الله عليه وسلم يصل بك إلى حقيقة ثابتة وهي أن الإيمان لا يتم للمؤمن حتى يكون نمط حياة، وحتى يكون عادة بالمعنى الإيجابي للعادة والذي يعني: الخفة على النفس، ومع الخفة التمتع وبرد الطمأنينة وراحة السكينة.

 

إن الغرض من هذا كله هو أن تكون الأوامر الشرعية واجباتها ومستحباتها، والنواهي الشرعية محرماتها ومكروهاتها، أن يكون كل ذلك بمثابة دروة تدريبية مكثفة تؤمنك الزلات الكبرى في مفترقات الطرق الأخلاقية.

 

وأية نظرة لبنية النظام الذي أتى به الوحي لا تراعي تكامله وأنه بتكامله هو ما يؤسس للنفس السوية= ستؤدي إلى خلل عظيم يؤثر على فعالية الجزء الذي عظمه هذا المختزل للنظام؛ فإن ضعف بعض أجزاء النظام وعدم تفعيلها لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان ويعجز عن إزالتها هو بعض الابتلاء والمحنة الكامنين داخل بنية هذا النظام نفسه، ليبلوكم كيف تعملون، أما الاختزال الاختياري لبعض بنية النظام وتعطيلها عن التفعيل أو تعظيم أجزاء منه تعظيماً فوق أوزانها في الوحي= فإنه من الفتنة التي تضل عن الحق ولا يعذر الله أصحابها إلا ما شاء؛ لأجل ذلك يضل من عظموا العبادة المحضة وهجروا منظومات القيم الأخلاقية، ولأجل ذلك يُفتن من عظموا منظومات القيم وقللوا من شأن ودلالة العبادة المحضة، أما الوحي فمنظومة متكاملة:

 

يقول صاحبه سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ثم يقول: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.

إن عمود هذا الأمر يكمن في أن تصنع نمط حياتك، وأن تكون نسيج وحدك، وأن تختط لنفسك النهج الذي تُجود به خياراتك الحياتية وفق منظومة معاييرك الدينية والأخلاقية

من هنا: ابدأ ثانية في إعادة النظر لهذا الكم من الجزئيات والشعائر ودقيق الأمور وجليلها، ومقاصدها ومقدماتها= ستجد نفسك أمام ‍نسق متكامل الهدف منه هو أن يؤهل إنسانيتك ويزودها بميزان حساس للمعايير والخيارات يجعلك تحسن التعامل مع خيارات اختبار الحياة كلها، وأن يجعل دنياك موصولة بالآخرة، وأن يجعل إيمانك خطاً متصلاً من القلب إلى الجوارح، ومتصلاً من الفرد إلى الجماعة، ومتصلاً من الجماعة إلى العالم، ومتصلاً من العالم إلى مسار التاريخ كله، إلى أن يقبضك الله وأنت من المؤمنين الذين هم شهداؤه على خلقه.

 

إنه مسار تدريب أخلاقي وإيماني متصل، ونمط حياة ممتد، من ذكر الانتباه من النوم الذي عظم الله أجره إلى أذكار النوم وما فيها من الالتجاء إلى الله والبراءة من الحول والقوة، مروراً بالتطهر والسواك والقرآن والصلوات المتتابعات وركائز العبادات، مع منظومة الحقوق الأخلاقية والتشريعية التي يجب عليك أن تلتزم بها تجاه الدوائر القريبة والبعيدة، وسياجات المروءة التي تتجنب فيها ما يعيبه الناس وإن لم يكن حرامًا، كل ذلك يجعل الوحي حياً بقدر حياة حملته والعاملين به، ويجعلك مؤهلًا دائمًا وأبدًا لاختيار الصواب وقادرًا على العودة عند الخطأ.

 

نعم. فحتى ذنوبك ومعاصيك وسقطاتك وزلاتك وطباعك السيئة وشهواتك التي لا تطيق الإقلاع عنها= كل ذلك هو نقصك الذي يصنع كمالك، كمالك في توبتك منه، كمالك في استغفارك منه حتى مع عجزك عن تركه، كمالك في هجرانك للكبائر وتعظيم قدر الدم الحرام والمال الحرام والعرض الحرام، كمالك في طلب الحسنات اللائي يذهبن السيئات، كمالكم في شفقتكم على الناس؛ لأنكم تذنبون كما يذنبون وترجون من الله ما يرجون.

إن عمود هذا الأمر يكمن في أن تصنع نمط حياتك، وأن تكون نسيج وحدك، وأن تختط لنفسك النهج الذي تُجود به خياراتك الحياتية وفق منظومة معاييرك الدينية والأخلاقية، وأن تحسن ما استطعت فيحسن الله إليك، وأن تتصالح مع نقائصك؛ لا تصالح الراضي بها وإنما تصالح من يرجو رحمة الله ويكاثر بالماء الخبث، ويسأل الله عفوه ورحمته، وذروة سنام ذلك كله: أن تُبقي علاج الحبل متصلا من يقظتك إلى نومك؛ فإن الحبل إذا دام اتصاله واتصل علاجه= قوي فأصلح ما تفلت من خيوطه، وإذا ما أهملت ذلك فستمزق أخطاء الخيارات روحك أشلاء لا تكاد تلتئم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.