شعار قسم مدونات

تسخين العنصرية في موريتانيا

blogs التعاون

من أعظم القضايا الكبرى التي عالجها الإسلام مشكلة العنصرية التي تتوارثها البشرية عن نزعة إبليسية منطلقها: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) فأصابت المخلوق من الطين نفس العلة فيما بينه، فقد عرف عبر تاريخ البشرية في جاهلياتها وحتى في أزمان تدينها بالدين السماوي نزوع مستمر للتعالي على الأجناس والألوان حتى وصل ذلك إلى العرق الواحد واللون الواحد.

 

وقد وضع الإسلام الدستور السماوي الخالد في نصوصه القرآنية وبنوده الحديثية التحريم القاطع والتشنيع الفظيع على من يمارس العنصرية بأي شكل من الأشكال، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وغيرها من الآيات وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبات عديدة بخصوص توطين نفوس هؤلاء الذين آمنوا أن لا يناقضوا مقتضى إيمانهم فيمارسوا رية الفضل على الغير التي هي من شناعات الجاهلية، فقال لأصحابه عند تحريك نزعة العنصرية القبلية أو الوطنية أو الجهوية: (دعوها فإنها منتنة) وقال لأبي ذر الغفاري وهو من السابقين الأولين للإسلام عندما عير رجلا بسواد أمه: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وختم خطابه في حجة الوداع بالتأكيد على تكريم الإنسان كإنسان وقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالأحساب…) وقال: (إن ربكم واحد وأباكم واحد،… وأنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى).

 

توارث الناس من جميع الأقوام نوعا من العبودية، فتجد القبائل الولفية والبنبارية والسلونكية، يمارسون العبودية على بني جنسهم في أبشع صور السخرة حتى إنهم لا يجلسون معهم على فراش ولا يأكلون معهم في إناء

ومعلوم أن التقوى تمنع صاحبها من العنصرية،… وفي بلاد المغرب الأقصى كما كان يسمى به القطر الموريتاني أو البرزخ أو المنكب أو همزة الوصل تختلط فيه الأجناس المعروفة بتعدد الألوان والأجناس، واللغات، لأنه ملتقى فسيح بين البربر والعرب والسودان الأفرقة بشعوبهم وقبائلهم المتعددة هي الأخرى في ألوانها لغاتها ..وقد شمل الإسلام أولئك الأقوام جميعا حتى لا يكاد يوجد دين آخر في نفس المحيط المذكور.

 

وتوارث الناس من جميع الأقوام أيضا نوعا من العبودية، فتجد القبائل الولفية والبنبارية والسلونكية، يمارسون العبودية على بني جنسهم في أبشع صور السخرة حتى إنهم لا يجلسون معهم على فراش ولا يأكلون معهم في إناء أحرى العلاقات الاجتماعية الأخرى.. وتجد البربر يمارسون العبودية على من يدعون لهم الرق أو ما قاربه ممن قبل التعبيد، ودخل العرب بروح الفاتحين للبلاد فاتخذوا فيما قبل دولة المرابطين العبودية لمن يتمكنون من أسره في الحروب الجهادية، واستمرت العبودية، وجاء المرابطون فأوغلوا في الفتوحات الإسلامية في عمق بلاد السود فازدادت بذلك العبودية حتى أصبحت أمرا لا ينكره منكر، ولا يعترض عليه معترض لأنه واقع يسلمه به المستعبد قبل السيد ويخضع له مهما مورس عليه من سوء استعباد وتجهيل وتكليف بما يطيق وما لا يطيق.

 

وقد ساعد على ذلك الواقع المعيش وحاجة السادة للخدم المطيعين في جميع الأعمال من تنمية وزراعة وحفر للآبار وجلب للماء وخدمة في إعداد الطعام والمساعدة على متاعب الحياة البدوية مع قساوتها، فهي قاسية على الجميع لا مهرب للضعيف من مطرقتها لحاجته أن يعيش في ظل سيد أو أسياد يتوفر على العيش في ظلهم..

 

وجاء الاستعمار الفرنسي ليستعبد الجميع، ويلقن الجميع استغلال سلطانه فلم يجد منه المجتمع على جميع طبقاته إلا التحريض وإثارة الفتن بدعاوى معروفة عن المنصرين والمستشرقين الذين كانوا أقلاما للاستعمار والغزو الفكري الذي يلقن الدارس من كل طبقة ما يبعثها على مقت الطبقات الأخرى، ولكن في الغالب يكون التأثير أكثر فيمن كان يشعر بأنه قد انتقص حقه، أو استغلت حاجته، أو انتهكت حقوقه، فيحمل نقمة تاريخية على الأحياء والأموات ويرتبط في مخيلته التاريخية أن كل بشرة بيضاء على ذلك التراب له معها ثأر حقوقي..

 

وقد حاول أول رئيس لموريتانيا المختار بن داداه رحمه الله التخفيف من العبودية والاسترقاق، كما ذكر ذلك في مذكراته، فأثار عدم مشروعيتها في الموجودين، وصدرت فتاوى بخصوص ذلك تماشي التوجه الأممي للحرية البشرية من استمرار السخرة التي دفعت الشعوب الغربية على الثورات المتكررة كما عرف بثورة الفلاحين، وعبيد الأرض، ثم ثورة الفرسان،.. وقد نتج عن ذلك نوع من الهروب الجماعي أو الفردي لهؤلاء المستعبدين، حتى تعلم بعضهم في المدارس الألى للدولة الناشئة، وهم يحملون في نفوسهم ما حملتهم المناهج الفرنسية والثقافات الغربية وما يحملونه هم من نقمة عن المجتمع: 
 

الجديد في الأسباب الداعية لتسخين العنصرية في موريتانيا هو وجود طبقة من المثقفين من الفئات التي مورست عليها العبودية سابقا، ووجدوا أنهم يمكن أن يبنوا على المطالبة بحقوقهم الوطنية ومتاعبهم التاريخية، مكاسب سياسية ومادية

(البيظاني) الذي يتحمل عندهم العبء الأكبر من استمرار تلك السخرة، وقد حصلت بسبب تطور الأوضاع السياسية وتقلب الأحوال المعيشية أن تخلى كثير من الناس عن مهنهم وتركوا ديارهم وتجمعوا في العاصمة نواكشوط بغية مكابدة الحياة العامة والخاصة من مركز الدولة ولكن ظلت الشقة تتسع معيشيا وتعليميا بين فئات المجتمع فمن كان في الأصل من الأسياد وعنده نزعة للتعلم تعلم وتبوأ في الحياة مكانا مرموقا وأصبحت عنده عنصرية جديدة أقلها النظرة الدونية للآخرين وخصوصا طبقات الجهال والفقراء الذين لا يحتاجهم أحد إلا عند تزوير الانتخابات أو عند ادعاء أنه يسعى في جلب إغاثات أو إعانات باسمهم.

 

وطيل خمسين عاما والأوضاع تتأزم على هؤلاء المهمشين من طرف الدولة حيث تركتهم نحوا من أربعين سنة في مخيمات وأكواخ لتستعطف بهم السوق الأربية وغيرها حتى يصل المال لغير مستحقه ويشعر بالحرمان من جلب المال والإسعافات باسمه، والجديد في الأسباب الداعية لتسخين العنصرية هو وجود طبقة من المثقفين من الفئات التي مورست عليها العبودية سابقا، ووجدوا أنهم يمكن أن يبنوا على المطالبة بحقوقهم الوطنية ومتاعبهم التاريخية، مكاسب سياسية ومادية فنادوا بتأسيس حركة سميت باسم أخوك: (الحرطاني) فترة من الزمن لاستعطاف تلك الشريحة.

 

وكان التعاطف باردا ومثبطا للآمال فتخلى بعض رؤساء هذا الجيل عنها وارتمى في أحضان الدولة وتنعم بالمال والجاه، وترك المطالبة لغيره ممن هو أقل منه ثقافة أو أقل منه حصافة، فهو إلى تضييع الحقوق أولى بأفعاله وأقواله من استرجاعها، ومن هؤلاء: بيرام ولد الداه ولد عبيدي، الذي يستميت هو ومن يؤيده في نهجه العنصري في خطابه وتحدياته العنترية مستغلين وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد الإثارة وتذكير الناس بثأرهم ممن قضوا نحبهم في القرون الماضية ليبعثوا العداوة بين من يعايشونهم ومن هم مثلهم في انتهاك الحقوق والتهميش ومثلهم في وقوعهم في الاستغلال لهم ماديا وسياسيا وربما دينيا، فمن ينظر فيما ينشر عبر الفيس بوك وأمثاله من مواقع النشر الحرة يجد أن هناك شحنا وتسخينا لبواعث العنصرية التي قد تكون كارثية على الجميع، وعندي أنه من واجب الجميع المبادرة للعلاج وأنه متعين على الجميع، لأن الجميع هو الضحية بدون استثناء…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.