شعار قسم مدونات

بطاقة بريدية لجدي الذي رحل

مدونات - رسالة بريدية
دخل بول زميلي الفرنسي في صف اللغة التركية إلى الصف متأخراً بضع دقائق. قال إنه كان في مكتب البريد يرسل بطاقة لجده في الجنوب الفرنسي يفترض أن تصله يوم عيد الفصح. شهقت للفكرة وقلت أنني نسيت وجود بطاقات بريدية أصلا وإن آخر ما وصلني منها يعود الى مراهقتي حين كان لا يزال الانترنت ترفاً عزيزاً.
 

قلت له أنني سأفعل مثله. غداً أشتري بطاقة وأرسلها لجدي أنا أيضاً. فهو مريض وعلمت إنه توقف حتى عن مطالعة الصحف اليومية، وبات قليل الصبر لأن يتحدث على الهاتف. بالفعل، في اليوم التالي ابتعت بطاقة عليها صورة أيقونة من كنيسة "آية صوفيا" الشهيرة، وضعتها في حقيبتي بين الكتب، وابتسمت متخيلة جدي وقد فرح بها فرحاً كبيراً وربما ابتسم، أو ربما خففت عنه بعض الكرب. ففي المرة الأخيرة التي زرته فيها، نظر إلي، وشهق باكياً كطفل صغير. انهمرت يومها دموع سخية على وجنتيه، مسحها بخجل، وبددها بابتسامة مفتعلة. مازحته بأن يتوقف عن ابتزازي عاطفياً، وإنه حين ينهض من مرضه سآتي خصيصاً من إسطنبول لنقيم المشاوي ونحتسي العرق البلدي سوية.

عدت إلى اسطنبول من تلك الزيارة وشعرت أنني اقتربت أكثر من جدي. هو قارئي الأول الذي غير عاداته في مطالعة الصحف المحلية ليواكب مقالاتي، وكل ما أكتب.

ذلك جعلنا، أنا وهو نضحك ونبكي معاً. فقد تواطأنا، من دون أي كلام، على أن ذلك لن يحدث، وأننا عملياً في لحظة وداع لا نعلم موعدها. ربما كان جدي غير راغب بمغادرتنا وربما لم يشبع من الدنيا بعد. ولكني أكاد أجزم أنه كان خائفاً فحسب. خائف من الوحدة والبرد، ومن ذلك المجهول الذي ينتظره إن هو غفا. اللباس السميك والأغطية الصوف التي أدثر بها في ذلك اليوم الربيعي الدافئ، جعلتني شبه متأكدة إنه لا يشعر بالبرد هنا، الآن، وإنما يريد أن يبقي معه بعض الدفء البيتي لعله يخفف عنه بردا طويلاً بات وشيكاً.

عدت إلى اسطنبول من تلك الزيارة وشعرت أنني اقتربت أكثر من جدي. هو قارئي الأول الذي غير عاداته في مطالعة الصحف المحلية ليواكب مقالاتي، وكل ما أكتب. يقطتع الصفحات التي يرى فيها اسمي ويحتفظ بها، ليعود ويسائل ويناقش، ويقارن مع ما قرأه في مواقع أخرى متخذاً وضعية المحاور، وتاركاً مسافة عاطفية واضحة معي. لذا، أسعدتني جداً فكرة البطاقة البريدية لأني شعرت إنها فرصة لبناء جسر من نوع آخر مع جدي، فأكتب له هو هذه المرة، وأخبره عن أحوالي وأسأله عن أحواله، وتبقى تلك البطاقات ذكرى شخصية عوضاً عن قصاصات الجرائد.

لكن المشكلة إنني إذ عدت إلى البيت حاملة البطاقة التي ابتعتها وحاولت كتابة بضعة كلمات، لم أعرف ماذا أقول له. تمعنت في الأيقونة، ثم نقلت بصري إلى السقف، ومنه عبر النافذة، حصرت دماغي ورحت أفكر بجدي، لكن عبثاً، لا شيء. خطر لي أن أتصل ببول وأسأله ماذا كتب في تلك البطاقة التي أرسلها لجده، فأستوحي منه، لكني وجدت الأمر سخيفاً. قلت يجب أن ينبع شيء ما من داخلي أسر به لجدي، فيكون خاصاً وحميماً.

وعليه، ألقيت البطاقة جانباً وأجلت مهمة البوح للصباح. استيقظت في اليوم التالي، وهرعت أبحث عن البطاقة قبل أن أحضر فنجان القهوة تلقفتها ورحت أكتب عليها. "هذه أيقونة "آية صوفيا" يا جدو، أعلم جيداً ماذا تعني لك وأنت المؤمن إيماناً عميقاً.."، بدأت أخاطبه حتى إن المساحة المتاحة للكتابة لم تعد تكفيني. أخبرته عن الربيع الذي بدأ يتفتح في إسطنبول، وكيف إن زميلي بول هو من أوحى لي بهذه الفكرة الرائعة، وتندمت إنني منذ انتقالي إلى هنا لم يخطر ببالي أن أراسله، ثم في الختام، قطعت له وعداً أن أواظب على هذه العادة المستجدة بشكل أسبوعي، فتصله مني أخبار خاصة مع صور من المدينة التي انتقلت إليها.

قبل يطلع الصبح، استيقظت على اتصال هاتفي يخبرني أن جدي قد رحل، وإن مراسم الدفن ستقام في اليوم التالي. صمت صمتاً طويلاً. شعرت إن ذلك يحدث في الأفلام، وليس في الحياة الواقعية. لم أقو حتى على البكاء.

حملت البطاقة وذهبت إلى مركز البريد القريب من منزلي. انتظرت أكثر من ساعة لكن دوري لم يحن وسط الزحمة، والموظف قرر الذهاب في استراحة غداء. عدت خائبة من المحاولة، وبدأت أحسب التأخير في وصول الرسالة إلى بيروت ومنها إلى القرية. لكن المشكلة الأخرى التي واجهتني، هي كتابة العنوان. اكتشفت مرة أخرى إنه خارج بيروت الإدارية، لا عناوين يمكن الوثوق بها. وحتى في بيروت، كلما اضطررت لكتابة عنوان منزلي في دائرة حكومية أو مصرف، أراني أفاجأ باسم الشارع، وكأنني أقرأه للمرة الأولى ولا أسكنه منذ سنوات. فقد درجنا في لبنان، على الاستدلال إلى العناوين من مدرسة قريبة، أو سمان الحي أو طريق مخالف لاتجاه السير، أو شجرة معمرة لم تنل منها أعمال البلدية. أما أسماء الشوارع والأحياء، فغريبة عنا كل الغرابة. فيما أرقام الأزقة والمباني، تكاد لا تستعمل على الإطلاق. هكذا، أنا أسكن مثلاً "خلف مستشفى أوتيل ديو، مقابل مدرسة الليسيه الفرنسية"، ولكنني في الأوراق أقيم في "شارع إسحق بن حنين"!

المهم، أنني قررت حمل البطاقة معي إلى بيروت نظراً إلى أن زيارتي باتت وشيكة، وسأصل لا شك قبل خدمة البريد. قلت أعطي البطاقة لوالدي فيسلمها لجدي ويقول له إنه تلقاها بالبريد، فيفرح. أردت لجدي أن يفرح بأي طريقة. ولا أعلم لم أصبح ذلك هاجساً لدي، ولا من أين جاءتني الثقة بأن تلك البطاقة هي ما سيفرحه. وصلت إلى بيروت مساء، وكنت وضبت البطاقة بشكل يجعلها تبدو وكأنها مرسلة بريدياً.

ولكن، قبل يطلع الصبح، استيقظت على اتصال هاتفي يخبرني أن جدي قد رحل، وإن مراسم الدفن ستقام في اليوم التالي. صمت صمتاً طويلاً. شعرت إن ذلك يحدث في الأفلام، وليس في الحياة الواقعية. لم أقو حتى على البكاء. لكني، إذ رأيت جدي مسجى تحت شرشف أبيض رقيق لا يشبه تلك الأغطية الصوف التي أرادها أن تدفئه، شعرت بالصقيع في أطرافي أيضاً. استجمعت قواي واقتربت منه، فقبلت جبينه البارد وسلمته البطاقة تسليم اليد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.