شعار قسم مدونات

التحرش الجنسي كقانون

مدونات - التحرش

"فيما نُلهي السُذّج بدراسات رائعة وقيّمة على مدى انفتاح المغاربة النسبي واطلاعهم التدريجي على ثقافة الصحة الجنسية وجرأتهم في تعرية وإفشاء حياتهم الخاصة عبر برامج البوح الإذاعي وازدياد معرفتهم بخبايا الجسد كشفا، والإحاطة علما بمخزون مكنوناته الليبيدية الكل كان يظن أن تاريخ العلاقات بين الجنسين في الفضاء الخاص أو العام ذاهب بوتيرة محسوبة في الاتجاه الحضاري المخطط له ،علاقات تتشكل وتتمظهر في حُلّة عصرية جديدة مع اعتبارها اليوم انقلابا على سلوكيات قديمة طبعت الجنسين على السواء وكانت فيما مضى من إفراز مجتمع مثقل بقرون من قيم جد محافظة".
 

لكن الطريف مؤخرا والمفاجئ في نفس الوقت أنه على مستوى المؤسسات المُقَنّنة دستوريا التي تحتكر تخريج وتشريع بعض القوانين الرادعة بإمكاننا أن نلاحظ بروز تصور آخر لهذه العلاقات ولتداخلها عند تقاطع فضاءات القرب والتلاقي، تصور مازال يحتفظ بكثير من متعلقات تلك الإيديولوجية الثيوقراطية الماضوية والمسيسة التي يعاد تدويرها وتحيينها من جديد كما سأوضح لحبكها هذه المرة بدهاء وإلباسها حلة قانونية تتغيا صفاء الذمة فجاءت حيثيات القضية التي يزعم هذا التصور الأخلاقي المحافظ التشريع لها كالتالي.
 

هناك تلك القوى الخفية المتربصة المدفوعة بنزوات قديمة في الكبت والقمع تنشط عكس التيار الحداثي المرغوب فيه، وُقودُها تلك الرغبة المستميتة في ضبط العلاقات ورصد الأقوال والخطابات وحصرها بما يتوافق مع أحكام وأعراف فرضت نفسها غصبا على نظام الحياة العامة.

فبعد كثير من اللغط فيما سبق، أفرجت الحكومة الإسلامية ممثلة في وزارة العدل على القانون المتعلق بالتحرش والذي يتضمن مقتضيات زجرية سواء تعلق الأمر بالعنف الجسدي أو العنف المعنوي المرتبط بالتحرش الجنسي، إذ ينص على إدخال مجموعة من التعديلات في بعض فصول القانون الجنائي وسيطرأ في حال اعتماده قضائيا إنزال عقوبات قاسية وسالبة للحرية في حق أي متحرش بالنساء بأفعال وأقوال أو حتى إشارات ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية، فإن كان المرء لا يتردد وهلة واحدة في شجب كل عنف جسدي مُتعلّق بتحرش جنسي مُمْعن فيه يترتب عنه ضرر مادي ملموس يبقى مع ذلك الإبهام واللُبس قائما بخصوص ما المقصود من إلحاق وإقران تعريف للعنف الجنسي بسيولة الأقوال والألفاظ في المكان العام مع تصويره على شاكلة تحرش عنيف مُبيّت غرضه السوء، فيستوجب بالمقابل وفي أقصى الحالات لتطهير العلاقات من أذى التلفظ عقوبة الحبس النافذة هكذا ودائما لتدجين طرف واحد في المعادلة الجنس الخشن.
 

فعكس ما هو متعارف عليه في أدبيات الحق والقانون التي سطرت أن البينة تقع على من أصدر الاتهام، سيصير الوضع هذه المرة مقلوبا رأسا على عقب ولصالح مرافعة غريبة في شكلها، فلنتخيل فقط لمّا سيأتي وقت تدوين محاضر الألفاظ والأقوال المحسوبة تحرشا جنسيا بينا كيف ستُجْبر الجهة المدافعة على تعليل انطلاقا من طعونها بأن الحادثة ليست على ذلك الوجه وأن النّية رُبّما ألطف والقصد أبَّر، فمن عينات متخيلة مثل هذه نستطيع أن نستنبط مسبقا رؤية شفافة لما ستصير عليه علاقات الجنسين في الواقع وداخل أجواء مُكهربة بالتوتر الأخلاقي ومشحونة بمطالب جَزائية مَسْعورة سيُهرع فورا للاستجابة لها لإرضاء الحشود.
 

فعلاً بمثل هذا الإجراء العقابي الجديد وليس بما يُبثّ إعلاميا ويُروّج له أحيانا رسميا هنا وهناك على أنه تحول جذري مرن ومنفتح يمس بنيات الروابط الاجتماعية في عمومها منحدرا إلى مستوى الأفراد، تُصاغ قصة عدائية من طراز آخر لعلاقات خطرة بين الجنسين المرأة والرجل كما لو تمّ تفصيلها على مقاس بيانات الدعوة والإرشاد النارية في عدم الاختلاط.
 

لم نعد نحتاج لإلباس الظنين تهمة التحرش الجنسي أن يصدر منه عنف صارخ أو يلقي بتهديد ما مع إكراه بدني فاضح بما أنه يكفي الآن مجرد التلفظ بأقوال توحي للسامع بخيالات جنسية صرفة فيتم الإجهاز عليك بأقصى العقوبات ففي هذه الديباجة التي تمّ التنصيص فيها على عدد من التعديلات الجنائية والتي تبدو صراحة لائحة فنية رائعة في تفصيل الجَزاءات مُشهرة في وجه كل من يزال يَعْتقد أن هناك بصيص أمل في توسيع مجال الحريات الفردية، تَتَبَلْور لغة قانونية صارمة مُتحجّرة تفوح منها رائحة المحاضر سُكّت عُنوة لتقنين العلاقات وعزلها عن خطوط التّماس المحجوبة عن أعين القانون، ولا شك أنها ستجد مفعول وظيفتها الإجرائية في الحَجْر والمتابعة مع ما يصحبها من هيبة وشرعية لا تناقش.
 

أكيد أن الهندسة الاجتماعية للفضاءات العامة بإتاحتها لرافد الاختلاط أن يَسري طبيعيا تُهيأ الحواضر لتعايش تلقائي بين الجنسين تحت شعار ائتلافي هو حق المساواة والإنصاف في الاستعمال العمومي للأمكنة مع محو لكل تمييز أيا كان صنفه. لكن هناك تلك القوى الخفية المتربصة المدفوعة بنزوات قديمة في الكبت والقمع تنشط عكس التيار الحداثي المرغوب فيه وُقودُها تلك الرغبة المستميتة في ضبط العلاقات ورصد الأقوال والخطابات وحصرها بما يتوافق مع أحكام وأعراف فرضت نفسها غصبا على نظام الحياة العامة.

إنها عودة تلك النزعة الشمولية الفاشية البغيضة المهووسة باقتحام مجال الخصوصية الفردية عودة ستسلط كما كان الأمر في فترات الخناق السياسي آلات الرقابة القانونية اللصيقة لالتقاط أدق تفاصيل الحياة اليومية العابرة وما ينبثق منها سهوا في مجرى التنقل واللقاءات من إيماءات وإشارات وأقوال وألفاظ وإيحاءات ونظرات.. إلخ، ستتحول وبقوة القانون شرطة ناجعة في رصد لغة الشارع وسيمنحها هذا أخيرا فرصة ذهبية في مراقبة ومعاقبة أي تصور منحرف لا يستجيب لمعايير النظرة النموذجية للمرأة .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.