شعار قسم مدونات

أبْكيكَ يا رمضان

مدونات - رمضان

صادفتُ على مواقع التواصل كلمة لنائب برلماني كندي أثناء جلسة أسبوعية للبرلمان، تحدث فيها عن شهر رمضان المبارك، وهذا نصها:
"السيد الرئيس في الأسبوع القادم، سوف يحتفل مئات المسلمين من الكنديين بشهر رمضان، وبالطبع مئات الملايين حول العالم، وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأبارك للذين يحتفلون بشهر رمضان، وأقول لهم رمضان مبارك، في العام الماضي حظيت بفرصة صيام شهر رمضان كاملا، وهو شيء أود القيام به مرة أخرى، دعما لعمل خيري اسمه العطاء 30 يوما، والفكرة هي أن تأخذ النقود التي توفرها نتيجة الصيام اليومي وأن تعطيها لمن هم أكثر حاجة، للجهات التي توفر الطعام للمحتاجين على وجه الخصوص، عندما صُمتُ كان تجربة لا توصف، أن أعرف معنى الجوع، وبطبيعة الحال تسنّى لي أن أفطر في نهاية اليوم، ولكن بالنسبة للكثير من الأطفال في كندا وحول العالم، للأسف هذا الإفطار لا يأتي أبدا، يتوجب عليهم أن يصمدوا خلال اليوم محاولين أن يتعلموا وأن يعدوا أنفسهم للمستقبل بدون توفر المساعدة الغذائية، هذا العمل الخيري يعطينا الفرصة للتعامل مع هذا الأمر وأن نستخدم قوة شهر رمضان لمساعدة الآخرين".

لم أملك وأنا أقرأ هذا الفهم السليم من غير المسلمين لشهر رمضان، إلا أن أتذكر ذاك الفهم السقيم لبعض من يتكلمون لغتنا وينتسبون لأمتنا ويحملون أسماء نبينا وهم عن صراطه ناكبون، كذاك الذي اعتبر رمضان "ظاهرة اجتماعية قهرية وليست عقدية" وزاد في فجوره فقال: " أنّ شهر رمضان يتّسم بسلوكيات في قمّة الوحشية والتخلّف، ويكتسي طابعا مأساويا دراماتيكيا". وكأولئك الذين تمردّوا على طقوسه وتحزّبوا في جماعة وسمت نفسها بـ "وكّالين رمضان" في تحدٍّ سافر لتعاليم الله تحت مسمى حرية الأفراد وحرية الاعتقاد وما هي إلا فوضى الحرية.

رمضان للأسف غدا عند الكثير من الأسر واجهة للتبذير والإسراف، عبء مادي باتت العائلات ترهق نفسها به لتحافظ على عادات وتقاليد في الطعام والشراب والاحتفال.

بين هاتين الصورتين المتباينتين، نطرح علامات استفهام كثيرة عن نظرة المسلمين اليوم لرمضان، ولماذا جرّدناه من كل قيمه الروحية والتربوية والاجتماعية حتى غدا عادة موسمية تعجّ بالمنكرات والموبقات؟ عِلة الصيام كما ذكر ربنا في القرآن " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ"، فالأصل تحقيق التقوى خلال هذه الأيام المعدودات، وما التقوى إلا أن يجدك الله حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك. وجاء عن ابن عاشور: وفي الحديث الصحيح "الصَّوْمُ جُنَّة" أي وقاية.. ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.

فهل تحققت هذه العلة في شهرنا في السنوات الماضية؟ الناظر لحالنا لا يمكن إلا أن يجيب بالنفي.. وأننا للأسف لم نفقه بعدُ الغاية من رمضان. لا أدري كيف استطاع غير المسلم أن يفطن إلى قيمة هذا الشهر حتى وصفه بالقوة، وعدّه فرصة لقهر النفس وحضِّها على العطاء والإحساس بالآخر، ونسينا نحن هذه القوة، فصرنا نتفنن في إضعاف ذواتنا خلال هذا الشهر بجرينا خلف شهواتنا وملذاتنا التي لا تنتهي ولا تزيدنا إلا رهقا وبعدا عن الله !!!
 

رمضان عند ربّات البيوت -اليوم- فرصة للتفنن في إعداد موائد الإفطار، تخطيطٌ بالنهار وتنفيذ للمخططات قبيل الإفطار، وتعبٌ وإرهاق بعده، رحى لا تنفك تدور طيلة 30 يوما!!
رمضان عند إعلامنا العربي مهرجان مفتوح للمسلسلات والأفلام والسهرات والفوازير والرقص والغناء وكل ألوان الفسوق والمجون !!
رمضان عند أهل الإدمان أو من نسميهم عندنا بالمغرب (المقطوعين)، ذريعة لمزيد من الخصام والشجار بل والقتل في كثير من الأحيان !!
 

رمضان عند الكثيرين فرصة للسمر الليلي، والترفيه المباح وغير المباح، سبيل لهدر الوقت في المولات والأسواق والمباريات الرياضيات لطي ساعات الصيام وانتظار مائدة الإفطار.
رمضان للأسف غدا عند الكثير من الأسر واجهة للتبذير والإسراف، عبء مادي باتت العائلات ترهق نفسها به لتحافظ على عادات وتقاليد في الطعام والشراب والاحتفال.

 
عادات قبيحة اقتحمت شهرنا، وكدّرت صفوه، وحرمت الكثيرين من بركته، وجعلت الشهر عادة اجتماعية ذات طقوس غريبة ما أنزل الله بها من سلطان! والأدهى والأمر أن يقضي المرء يومه صائما، وأول ما يلهث خلفه بعد الإفطار زيارة المواقع الإباحية، أو التعريج على دردشات حميمية، فتلك وربي بليّة عظمى أضافتها مواقع التواصل لعادات الإفطار في بلاد الإسلام، ولعلّ الصادق الأمين قد أعلمه ربّه بهذه الويلات حتى قال: رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، ورُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَر.
 

فاللهم لا تجعل حظنا من الصيام الجوع والعطش، ولا حظنا من القيام التعب والسهر، وسلّمنا لرمضان وسلّم رمضان لنا ووفقنا فيه لصالح العمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.