شعار قسم مدونات

وقفة مع رواية "مصائر كونتشرتو الهولوكست والنكبة"

مدونات - رواية مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة

تعد الرواية من أنجح الأجناس الأدبية المتوفرة حاليا لدى القارئ، وأيضا من الفنون التي تحمل عدة أنواع مختلفة ولها ضوابط واضحة ومحددة في السرد العربي، إلا أننا حينما نتحدث عن أنواع الرواية يلتبس علينا الأمر في تصنيف ما نقرأ من الناحية الأدبية وقد أخذنا رواية "مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة" أنموذجا للمؤلف "ربعي المدهون".

تناولت الرواية مقدمة صريحة ومباشرة للقارئ تخبره أنها محطات لشخصيات فلسطينية حقيقية تناولها الكاتب من منظوره الإبداعي في التخييل ونقل الواقع مع إضافة موسيقية تركيبية لمسها القارئ من خلال حركات الرواية، بالرغم أن تجربة الحركات في الرواية عموما كانت بطيئة من حيث الأحداث، مع العلم أنها لامست تاريخ النكبة الفلسطينية سنة 1948 ولم تتناول إلا بعض أحداثها وشخصياتها المكررة من حيث المعنى، وقد يلاحظ القارئ العادي مدى تشابه تلك الشخصيات فكم من مرة صافحت قرارات الكاتب وأفكاره من خلال أبطاله وربما ما جعلني أشعر بذلك هو لغة أبطاله التي لم تختلف في السرد إلا اختلافا طفيفا كان محتكرا على العامية فقط حتى أننا نلاحظ تذبذب بطلته "جولي" بين الفصحى والعامية، فإلى أين نوع ينتمي هذا العمل الروائي ؟ وما هي مميزاته اللغوية والأدبية؟

يرى "باختين" أن الخصوصية الاستثنائية للجسر الروائي تتمثل في أن الإنسان في الرواية هو إنسان متكلم، والرواية تحتاج إلى أناس متكلمين.

يرسم لنا المؤلف من خلال مجموعة من الشخصيات التداخل الحاصل بين ثقافتين وجنسين مختلفين ينتمي كل واحد منهما إلى الآخر بعلم أو بدون علم وبدائرة كبيرة واسعة يجمع بين العالم الغربي والعالم العربي إلى أن يصل إلى دائرتين صغيرتين محصورتين في وطن واحد يتكون من مواطنين مختلفين، يرفع الستار عن التضاد المكون بين جل شخصياته في قضية الوطن وحق العيش تحت أي مسمى "إسرائيلي" "فلسطيني"، تناول وكما أسلف الذكر في مقدمته مجموعة من الشخصيات الفلسطينية والغير فلسطينية لكي نجد أنفسنا في مزج وذوبان سار بين كل الشخصيات وكل الاتجاهات.
 

إلا أننا حينما نقول أنها مجموعة من الشخصيات التي تناولها الكاتب من واقعه العربي والغربي إن صح التعبير واتسع نجد أننا أمام مجموعة من المذكرات لمجموعة من الأشخاص والتي على لسانهم نقل لنا الروائي قصصهم وربما يصح لنا أن نسمي هذا العمل الأدبي بالمذكرات والتي يتحدد مفهومها وأنواعها تبعا لمظاهر الحياة الثلاثة: الأفعال، الأفكار، العواطف. وبتصنيف أشمل قد نسميه المذكرات التاريخية وهي التي تهدف إلى الكلام عن الآخرين، أو عن المؤلف نفسه، ويعتمد صاحبها في تدوين الوقائع على الذاكرة أو المشاهدة، ملتزما أمكن الحياد فيما يكتب، وقد عبر الكاتب رومان رولان عن هذا بقوله:" سأحاول- جهد المستطاع- في هذه الملاحظات المجردة، القيام بدور المسجل البسيط، الذي يدون ما يمليه عليه الزمن، وسوف أحاول ألا أعطي انطباعا صحيحا عن هذا العصر المعقد المتشابك، إنني أدون أقوالا وأعمالا، وأنا قابع في زاوية صغيرة من زوايا المعركة".

أما لو اتجهنا بها إلى فن السيرة في التعريف الأدبي نجدها أيضا نوع من الأدب يجمع بين التحري التاريخي، أي أن الرواية التي بين أيدينا هي مسيرة لحياة أشخاص عليها أن ترسم لنا شخصياتهم بصورة دقيقة بعيدة عن أفكار المؤلف وغربته ورؤيته للأحداث والشخصيات، ويجدر الإشارة على أن هناك بعض الشخصيات مثل: "باقي هناك" و"جنين وزوجها" "جولي وزوجته" كانت لهم الأدوار الرئيسية في الرواية حيث اعتمدت خيوط الرواية عليهم وتشبعت وانطلقت من خلالهم وقد نجح المؤلف في اختزال مشاعرهم في عدت مواضع إلا أنه لم يتناول منهم إلا وجههم المشترك في كل الانطباعات والانفعالات البارزة في الرواية ويكادُ أن يُخلق حدثا واحدا فتجد أن جل شخصياتها ستقوم برد فعل موحد.

وربما نتج ذلك عن اللغة، فلغة الكاتب في الرواية وأصوات أبطاله لم تختلف في السرد وحتى حينما ناول جولي وصديقتها اليهودية صوتهما كانا متشابهين من حيث النطق والتذبذب اللغوي والفكري أو ربما نقول الاتفاق اللغوي و الفكري كأنهما شخصيتان متشابهتان عاشت كل واحدة منهما في زمكان مختلف. وقد نلاحظ في الرواية كيف تأثر الروائي بشخصياته بصورة مبالغ فيها وغير مستحبة في السيرة الغيرية أو المذكرات فكم شعرنا بهتافه وضعفه بين "هنا" و"هناك" وفي مواضع مختلفة يمكن تجاوزها بباسطة، فقد استحكمت العاطفة مؤلفها أخذت منه في الرواية.

المؤلف في تصوره للغةِ شخصيات روايته لا يكون محايدا وإنما يكون في علاقة حوارية مع هذه الشخصيات يحاججها ويتحداها ويوافقها ويسألها ويستمع إليها، وفي الوقت نفسه يحاكيها بسخرية.

ومن اللافت للنظر هو وجود زوجين في كل الحركات مع عدم الخوض في الحياة الأسرية كما لو أن الكل كف عن الإنجاب إلا شخصية "باقي هناك" وأسرته التي حرمنا الكاتب من دلالات ورموز أبطالها أي أبطل أسرته عن قرب على الرغم أنها تشكل وبشكل واضح الأسرة الفلسطينية.
 

كما نلاحظ أن الرواية تتحرك أو اللغة الروائية تتحرك باتجاه الوظيفة التنبيهية في اللغة، وقد أجاد مؤلفها في وصف المكان والزمان والحالة النفسية لبعض شخصياته وأزماتهم داخل الرواية إلا أنها ضلت مقيدة بطريقة ما. يرى "باختين" أن الخصوصية الاستثنائية للجسر الروائي تتمثل في أن الإنسان في الرواية هو إنسان متكلم، والرواية تحتاج إلى أناس متكلمين.. إن المؤلف في تصوره للغةِ شخصيات روايته لا يكون محايدا وإنما يكون في علاقة حوارية مع هذه الشخصيات يحاججها ويتحداها ويوافقها ويسألها ويستمع إليها، وفي الوقت نفسه يحاكيها بسخرية، وإن المؤلف يحادث شخصياته فعلا وهذا الحديث لحظة مكونة جوهرية بالنسبة للجنس الروائي. وهذا ما نجح فيه الكاتب في بعض المواضع وقد فشل في أخرى وربما كان موضع الفشل هو حرب هالكة بين الشخصيات وكاتبها.

لقد وفق الكاتب في نقل خطى ثابتة لعناصر الرواية الأدبية مع إضافة روح الاستمتاع والفكاهة داخل النص الروائي مع حفاظه المناسب على الأحداث المناسبة مع طول النص فلا نجد حشوا للنصوص بل لا يمكننا الاستغناء عن أي قطر في الرواية فهي متماسكة وكل نص يحيلك للنص الموالي مع الحفاظ على عنصره الفني والدلالي والتركيبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.