شعار قسم مدونات

ضحايا الارتجال من السيسي إلى سلاّل

Egypt's President Abdel Fattah al-Sisi reacts after delivering a speech at the Lower House of parliament in Tokyo, Japan, February 29, 2016. REUTERS/Toru Hanai TPX IMAGES OF THE DAY

إذا كانَ الارتجالُ فناً وموهبةً لا يُجيدهُ سوى المتمكّنُ من الإلقاءِ والخَطاَبة. فإنَّ بعضَ المسؤولين العرب قد وقعُوا في فخّه بإرادتهم. وأصبحوا عُرضةً للسُّخرية. أذكرُ منهم :

– عبد الفتاح السيسي
ما إنْ نطقَ الرئيسُ المصريّ عبد الفتاح السيسي بهذه العبارة: "قسماً بالله العظيم لو المصريين ما عاوزيني ما حقعدْ ثانية" حتى انهالَ عليه الشّعبُ المصريّ بالسُّباب و"التَريئَة" على حدّ قولهم. واصفينَ إيّاه بالمُجرم والسّفاح. مُطالبين سيادتَه بالرّحيل بوسمٍ تحتَ عنوان :"مش عايزين السيسي".

ولأنّني جزءٌ من هذا الوطن العربيّ ويعنيني كثيراً ما يحصلُ فيهِ من أحداث، فقدْ عايشتُ تفاصيلَ الثورة المصريّة مذْ بدأت بـ "أنا اللي هتفت سلميّة" ولحظاتِ سقوطِ الرئيس حسني مبارك إلى الانقلاب و"يسقُطْ يسقُطْ حكم العسكر".. عشتُ تفاصيلَه وآلمني انكسارُ الثورةِ وما شاهدتُه من جرائمَ وظلمٍ لم تتوقفْ للآن.

 إلاّ أنّ أمراً مُختلفاً أرّقني ورسمَ إشاراتِ استفهامٍ وتعجّبٍ على جبيني. مُذْ استلمَ السيسي الرئاسة، فبفضلهِ اهتزَّت الصورة النمطيّة التي كنتُ قد رسمتُها للضّابط أو مَن يعمل في سلكِ العسكر. فأنا اعتدتُ على صورةٍ معينة تتمثلُ في شخصيةٍ صلبة وقوية، ذاتِ حضور لافتٍ وملامحَ حازمة. شخصيةٍ تتمتعُ بحضورٍ مُخيف. وصوتٍ رخيم أجشّ ذي طبقةٍ عالية. ما إنْ تسمعْ صوتَ صاحبها حتى تظنَّ أنَّ الأرضَ قد زُلزِلت من تحتِ أقدامك. وما إنْ تقفْ أمامَه حتى تشعرَ بفرائصكَ ترتعدُ ودقّاتِ قلبكَ تتسارعُ من الخوف، شخصيةٍ ذكية وشجاعةٍ قادرةٌ على حسمِ الأمور لصالحها بدهاءٍ وحنكة.

عبارات السيسي العشوائية ومُرونته بالحديث لا تبدو لمنْ يستمعُ إليها بأنّها عباراتٌ أو خطابٌ لرئيس دولةٍ عظيمةٍ وكبيرةٍ كمصر، بل تشعرُ وكأنَّك تستمعُ لخطبةٍ عنْ فوائدِ الابتسام والعيش بسعادة أو عن الأملِ والإيجابية في الحياة.

حتى أنني كنتُ أراقب ما ترويه بعضُ صديقاتي عن آبائهن الضباط بفمٍ مفتوحٍ وعيونٍ مشدوهة، فقد كُنَّ يعشْنَ ضمن نظامٍ عسكريّ لا يحقّ لهنَّ تجاوزه، فالاعتراضُ ممنوع والضحك بصوتٍ عالٍ ممنوع، والتكلُّم في المُسلّمات والقضايا الوطنية ممنوع أيضاً، أمّا بالنسبة لرجلٍ كالسيسي عملَ في المؤسسة العسكرية لأكثرِ من أربعةِ عقود، ففي كلّ خطابٍ ارتجاليّ كان يخرجُ فيه إلى الناس أُصَابُ بالاستفزاز و"النّرفزة".. مع رغبةٍ في الخروج من الشَّاشةِ لوضع شريطٍ لاصقٍ في فمِهِ قبل أن يُكملَ ما بدأ به.

يتحدثُ وكأنّه يحكي "حتوتة" لأطفالٍ صغارٍ في برنامجٍ فُكاهيّ خُصّص لهم بالذات، خاصةً عندما قالَ يوماً: "فيه أسد بياكل وِلاده" بنبرةِ صوتهِ المليئة بالحنان والرقة وابتسامتهِ الجانبيّة التي يرسُمها على وجهه ليبدو لمَن يتابعه شخصاً جذاباً ذا كاريزما لافتة.. أو ربّما كَـ "ممثل"في دور البطلِ الرومانسيّ". يختارُ عباراتٍ لا يمكنُ أن تخطرَ لكَ على بال. من مثل: "أنتوا مش عارفين انو انتو نور عينينا ولا إيه" تكاد تكون العبارةَ الأشهرَ له. دونَ أن ننسى: "والله العظيم أنا لو ينفع اتباع.. اتباع علشان مصر"، "والنبي متكسروش بخاطر مصر"..

على الرّغمِ منْ أنَّ الكثير من المُحلّلين النفسيين عملوا على تحليلِ شخصيته ودراسةِ صفاته وهناكَ من وَصَفه بالشّخصية المتواضعة والتي لا تحبُ الأضواء والشّهرة إلاَّ أنّني أرى العكس. وإنْ كانتْ خبرتي متواضعةً في مجالِ تحليلِ الشّخصيات، فهو رجلٌ يعشقُ تسليطَ الأضواءِ عليه، يبدو ذلكَ من خلالِ حركة يديه ورأسِه، ومن خلالِ عباراتهِ العشوائية ومُرونته بالحديث والتي لا تبدو لمنْ يستمعُ إليها بأنّها عباراتٌ أو خطابٌ لرئيس دولةٍ عظيمةٍ وكبيرةٍ كمصر، بل تشعرُ وكأنَّك تستمعُ لخطبةٍ عنْ فوائدِ الابتسام والعيش بسعادة أو عن الأملِ والإيجابية في الحياة.

أمّا عندما يتحوّل إلى داعية، فيُخيّل إليّ وكأنني أتابعُ برنامجاً دينياً لأشهرِ دُعاة مصر -الأغنياءِ عن التعريف- مع الموسيقى التصويريّة التي لابدّ منها لتكتمل الصّورة خاصةً وهو يقول:
"يا رب يمكن ما يكونش ليّ خاطر عندك. بس أستحلفك بخواطر من لهم خواطر عندك أنك تهدينا وترحمنا وتكرمنا".

– العقيد سهيل الحسن
وأنا أكتبُ ما يجولُ في خاطري عن السيسي. تأخذُني ذاكرتي إلى ضابطٍ آخر في الجيشِ العربيّ السوريّ. يلقبونه "بالنّمر"، ويعتبرونه أشرس قادة الأسد. يُدعى "سهيل الحسن". عندما خرجَ سهيل الحسن في أوّل ظهورٍ إعلاميّ له وقعَ هو أيضاً في فخ الارتجال وهذه المرة بتكرارِ عباراتٍ لا معنى لها والتركيزِ على نظرياتٍ إنْ دلَّتْ فإنّما تدلّ على أنّه تربّى في مدرسةِ الأسد القائمة على اللّعب بالكلمات من قبيل الشّفافية والموضوعية والفلسفة التي لا فائدةَ منها. فَبَدَا "كالأبله" وهو يتحدثُ عن اللاّشعور وعن أعداء العالم. يقول:

"لقد أصبحت البطولات في اللاّشعور وهذا أمر ليس سهلاً على الإطلاق. هو جملة متكاملة. هي اللاّشعور المنظم. المليء بالولاء، المليء بالعطاء. وأنتم تقومون بأعمالكم انطلاقا من اللاّشعور بإحساسكم بوطنيتكم بحبكم وولائكم. فكلّ يوم باللاّشعور ترفعونَ اسم سوريا عاليا. على العالم كلّه أولاً أن يعرف عدوّ العالم، وعلى من يدعم أعداء العالم أن يعرف أنه ليس من العالم. فأنت تسألني سؤال غريب عن أعداء العالم. حربنا مع أعداء العالم. أيّ عالم. أتسألني وتجعلهم من العالم. وتقول إنّهم من العالم؟".

أتوجهُ بالنّصيحة لكلّ مَن لا يُجيدُ فنّ الارتجال أنْ يبتعدَ عنه خاصةً إذا كان رئيساً أو مسؤولاً معروفاً. فلا أصعبَ من أنْ يُسجلك التاريخُ على أنّكَ كنتَ تتحدثُ كالأبله ولا تجيدُ تكوينَ جملةٍ مفيدة. لأنَّ التاريخَ لا يرحمُ أبداً.

– عبد المالك سلال:
لمَن يجهل عبد المالك سلال فهو الوزير الأول في الجمهورية الجزائرية، لا يهمُّني كيفَ يراه الشّعب الجزائريّ، سياسياً مُحنّكا، أو العكس. ولكنّ ما يهمُّني هنا هو عباراتُه التي يقفُ عندها الجميعُ مستهزئين. فهو يتحدَّثُ بطريقةٍ لا تدلّ على أنّه مسؤولٌ في دولةٍ أو رجل يتمتّع بتحصيلٍ علميّ أو ثقافيّ.  صاحبُ الجَمْع المُميّز لكلمةِ "فقير". والتي اختارَ أنْ تكون "فقاقير" بدلاً من "فقراء". يتكلّمُ بعباراتٍ فوضويّة وكلماتٍ عشوائية، إذا حاولتَ أن تُكوّن منها جملةً مفيدة فلنْ تحصلَ إلاَّ على "تعويذات" بلا تأثير.

لنْ أحرَمكُم من بعضِ عباراته التي اشتُهِر بها. وقد اخترتُ الأكثرَ وضوحاً. لأنَّ باقي خطاباتِه تحتاجُ إلى تُرْجُمان: "اقعدْ في الشّعر. اقعدْ في قلْ أعوذُ بربّ الفلق" حيثُ اعتبر الآية الكريمة شِعْراً. وفي آخر لقاءٍ له دعا النّسوة للتصويتِ في الانتخاباتِ التشريعية القادمة مُستخدماً عبارة "كركري راجلك" وتعني: "جرّي زوجك"، "واللي ماتكركرش راجلها ندخلوا فيها بالضرب"..

إذا كنّا قد حُرِمنا من القذافي و"نهفاته" فقد عوّضنا اللهُ بمَنْ يرسُم البهجةَ والغِبْطة على قلوبنا على مبدأ "المُضحك المُبكي". وهنا أتوجهُ بالنّصيحة لكلّ مَن لا يُجيدُ فنّ الارتجال أنْ يبتعدَ عنه خاصةً إذا كان رئيساً أو مسؤولاً معروفاً، فلا أصعبَ من أنْ يُسجلك التاريخُ على أنّكَ كنتَ تتحدثُ كالأبله ولا تجيدُ تكوينَ جملةٍ مفيدة. لأنَّ التاريخَ لا يرحمُ أبداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.