شعار قسم مدونات

ما يريدون وما لا يريدون في ابن خلدون

مدونات - ابن خلدون

دعنا نبدأ بما يريدون، ثم ننثني إلى ما لا يريدونه في ابن خلدون ويخفونه بألسنتهم وأيديهم!
 

أولًا: ما يريدون
الاحتفاء بابن خلدون جاء من الغرب بداية، ثم انتشر بيننا بفعل المستشرقين وتلامذتهم من بني جلدتنا، وحين انتشر ذكره بيننا حمله عامتنا على رؤوسهم دون أن يتحققوا مما يقول؛ وراح بعض المبهورين بكل مشهور ينتقون من كلام ابن خلدون جملًا وأفكارًا صحيحة في ذاتها دون سياقها، أو دون أن ينتبهوا للسياق العام الذي قدر غرسوا فيه والهدف العام الذي يدفعون إليه.

اهتم الغرب بابن خلدون لشيءٍ رئيسي أحدثه في الفكر الإسلامي هو الانطلاق من الواقع الذي يحياه الناس، بمعنى أن تكون القيم المطبقة في حياة الناس هي القيم الحاكمة، بمعنى أننا -نحن المسلمين- قد هزمنا وغرست فينا قيم غيرنا فعلينا أن نستسلم ونتعامل مع الواقع، بمعنى أن نستدبر الجيل الأول وسيرته ولا نحاول استعادتها من جديد فقد تغير الواقع.. علينا أن نكون واقعيين، كما يقولون!! لهذا يحفلون به؛ وهذا ما قد غرس في حس كثيرٍ ممن يتحدثون للناس: أن نقطة الانطلاق هي الواقع. أن كن واقعيًا!!
 

وثمة خلط
الواقع نقطة انطلاق للتشخيص، للتعرف على المناط كي نأتي له بالحكم الصحيح إذا كان المقام افتاء، أو نبحث له عن الدواء إذا كان المقام دعوة وإصلاح، ولكن الواقع -أبدًا- لا يكون مصدرًا للقيم الحاكمة. بمعنى أن القيم هي التي تصوغ الواقع. فكل مجتمع تطبيق لمجموعة من القيم، أيًا كان وصفها. وكل قيم تغير الواقع مهما كان الفرق بينها وبينه إذا وجدت من يغرسها ويرعاها؛ كما حدث في النموذج الإسلامي الأول، فقد تبدد ظلام الجاهلية الدامس الذي كان يخيم على الأرض بأكملها إلا قلة قليلة من "الأحناف"، وما هي إلا سنوات معدودة حتى خرج الناس من مستنقع الكفر الآسن إلى مرتع الإيمان البهي.
 

ابن خلدون قد جاء على فترة من العز.. بعد أن كُسر المسلمون في الأندلس ودخل النصارى عليهم في المغرب واحتلوا أطراف العالم الإسلامي وهاجموا قلبه، فراح -بقصد أو بدون قصد- يقول بسيادة الواقع، وكلا.. وألف كلا.

وفي واقعنا المعاصر نموذج شديد الوضوح يشهد بأعلى صوته على كذب من ادعى حتمية الواقع، أو من اختلت عنده الرؤية فظن أن الواقع يفرض مفاهيمه على الجميع. هذا النموذج هو تمكن الإباحية (الجنسانية كما يسميها مشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية)، من المجتمعات الغربية وظهورها في المجتمعات الإسلامية وكادت أن تتمكن منا كما تمكنت من غيرنا. فقد كانت المجتمعات الغربية إلى وقت قريب محافظة لا تعرف التعري. بل، ولا تعرف غير الحجاب وقرار النساء في البيت، حتى دبت منظومة الإباحية (أيدلوجيا الإباحية) ووجدت من يحملها إيمانًا بالرزيلة وحبًا لأهلها وكفرًا بالفضيلة وبغضًا لأهلها، أو تكسبًا من حيث لا يحل، أو وسيلةً لسياسة الناس، وكلها مسالك لهاويةٍ واحدة.
 

وكما تمكنت منظومة أفكار (أيدلوجيا) الإباحية من المجتمعات الغربية والجنوبية تتمكن اليوم من مجتمعاتنا. فهذه أفكار غيرت واقعًا.. جاءته من الخارج وغيرته. وبعد أن يتغير يأتي المؤمنون بخطيئة ابن خلدون يصرخون بحتمية الواقع، وكأن هذا الواقع لم يصغ من قبل مفاهيم حملها قلة من الناس عالجوا بها الواقع حتى أعادوا تشكيل!! ما لكم كيف تحكمون؟!
 

ومما جعل الأمر يلتبس على بعضهم أن أغلب الناس تبع، يخضعون للواقع في كل شيء.. أغلب الناس مع ما ذاع وانتشر، في عقائدهم وفي خاصة أمرهم. يرددون ما يتردد ، ويلبسون ما يلبس وإن كان محرمًا، ويأكلون ويشربون ما يؤكل وما يشرب وإن كان مما لا يضر ولا ينفع. فالواقع هو أبو هؤلاء وسيدهم وهم أتباعه، وهم الكثرة من حيث العدد. ولكن الواقع الذي يسوق هؤلاء حيث يشاء هو هو بنفسه تبع لفئة قليلة تؤمن بفكرة وتُخضع لها الواقع، وإنهم في كل زمانٍ ومكان.. صالحون أو مفسدون.
 

ألا إن ابن خلدون قد جاء على فترة من العز.. بعد أن كُسر المسلمون في الأندلس ودخل النصارى عليهم في المغرب واحتلوا أطراف العالم الإسلامي وهاجموا قلبه، فراح -بقصد أو بدون قصد- يقول بسيادة الواقع، وكلا.. وألف كلا. إن الواقع يسود على الهمج ويأخذهم حيث شاء، والواقع ذاته بيد فئة من الناس.. أولئك الذين يحرسون القيم ويستنبتونها.

ما لايريدون في ابن خلدون:
ابن خلدون يقف بخمسته (يداه وقدماه ورأسه) في وجه أهم النظريات السائدة اليوم، وهي "التطور المعرفي"، أخت سيئة الذكر (التطور البيولجي..نظرية دارون)، ومفادها أن التاريخ يسير في اتجاه واحد.. تصاعدي، وأن ما وصل إليه الناس الآن من قيم ديمقراطية هو نهاية التحضر.. نهاية التاريخ. فأظهر ما يظهر في صفحات مقدمة ابن خلدون هو أن الدول تشيخ وتنتهي، وأن الأيام دول، وأن الحضارات تسود ثم تبيد وتنتهي. أن الدول كالأفراد تشب وتشتد ثم تهرم وتشيخ وتذهب بلا رجعة، كما قال الله "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ". بمعنى أنهم زائلون، وبمعنى أن تأثير الواقع الذي نراه لابد أنه سيتغير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.