شعار قسم مدونات

بأيهما تنمو اللغة؟

blogs الكتابة
ولجنا عالم الدنيا ولم يكن لنا اختيارٌ وتطور الفكر البشري وتكاثر أعضاؤه وتعددتِ الألسنة وطاف الجنس البشري في رحاب هذه المعمورة يبني ويطوِّر ويهدم ويقتل وكان اللِّسان هو المعبِّر عن الرغبات والشَّهوات والآمال والأحزان … وتطور الأمر وصار المنطوق يحفظ بكلماتٍ تدوَّن، كالرسومات التي نحتت على الصخور لتعبر عن حدثٍ أو قصة… وصار اللِّسان البشري محل الدرس لا لمجرد تنمية الانتماء، إلى لونٍ من الأولان البشرية أو إلى جنسٍ أو طائفة، ولكن لأنّ اللسان أهم ميزة امتاز بها الإنسان فهو المعبِّر عن كل ما يحيط به من أمورٍ ماديَّةٍ ومعنوية، فالخلاف حول وجود الإنسان ذاته نبع من كلمات قيلت، والأديان مادتها الكلام، حتى علاقة الإنسان بشريكه في عالم الإنسانية إنما يتوطد رباطها أو ينفضُّ جمعها بما يُنتج من كلماتٍ عن طريق اللسان.
 
وهنا لا غرابة في أن تُصبح هذه الخامة العجيبة محلّ درس ونظر تؤلَّف حولها الكتب وتوضع القوانين لضبطها تركيبيًّا وصوتيًّا وفكريا ومنشَأً. ونحن كمشاركين للعنصر البشريِّ في المشترك اللِّساني وُجِدنا في حيِّز جغرافي قدَّس منتجه اللُّغوي وزاده قداسةً مع نزول آخر الكتب السماوية بكلمات لغته. ومع نزول القرآن الكريم ودخول اللِّسان العربي حيز الدرس والتصنيف والتأليف وُجدت مدرستان لا أعني مدرستين نحويتين وإنما مدرستان يمكن أن نُطلق عليهما مدرستي الانتماء إلى أحد لوني الدرس اللغوي وهما الدَّرس الأدبي والدرس اللغوي.

لا شك منذ البداية أنه علينا أن نُقر بأساس أن الأديب هو مستند اللغوي، فاللغوي إنما يبني قوانينه استنادًا إلى المنتج الأدبي ولعل الأديب يتمثل قول المتنبي:
أنام مِلء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

لا أدب بدون لغة مُتْقَنةٍ في الأداءٍ موافقةٍ لقواعدها ولا لغة بدون منتجٍ أدبيٍّ متدفق يُضفي على القاعدةِ حيويةً وصلةً بالواقع الذي تُقال فيه، التكامل يكون بدمج العنصرين الأدبي والنحوي وأيُّ تقصيرٍ في أحدهما ما هو إلّا انعكاسُ ضعفِ الجناح الآخر.

فالأديب يتعاطى ما يبعث فيه الغرور ألا وهو الكلام، وفق ما قال التوحيدي: "الكلام صَلِفٌ تيَّاه لا يستجيب لكلّ إنسان، ولا يصحب كلَّ لسان وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور". ومتعاطي الكلام ينثر واللغوي ينخل؛ ولهذا لا نستغرب عندما قال المتنبي الأديب: ابن جني اللُّغوي أَعلمُ بِشِعري مِنّي. ولكن مع تنامي الأبحاث اللُّغوية واستقرارها في بعض العلوم هل لغتنُا بحاجةٍ إلى الاستمرار والإكثار من بناء اللغويين أم أنَّنا بحاجةٍ إلى تزويد هذه اللُّغة بأدباء متقنين.

في زمننا المعاصر نجد الإقبال على النثر الأدبي هو الذي يستهوي الجمهور عامَّة بجميع تخصصاتهم فهو تلقيحٌ للفكر وتعبيرٌ عن المشاعر، وأهمُّ سمةٍ فيه أنه يوسِّع انتشار اللغة، ولهذا نطرح السُّؤال المشروع هل ما أنتجه طه حسين أغنى اللُّغة أكثر من ناحية حملها للمفاهيم ومشاركتها للناس في حيواتهم والتعبير عما يختلج في صدورهم، أم أنَّ النحويين هم الذين كانوا الحرس والحصن المنيع الذي صدَّ الهجمات التي أرادت محو معالمها.

ولكن قد يأتيك سائل ويقول إذا كان النحويون هم الذين حرسوا اللغة وصانوها فلِمَ لا يقبل الناس على العربية اليوم، ولماذا تجد أكثر الناس يهزأ: بحتَّى وكان وصار… هل من جمودِ النَّحويين أم من جهل الناس الــمُستهزئين، أم لمؤامرةٍ كيدية هُيئ لها منابرُ تطعن بلغتنا وسدنتها… أسئلةٌ تفتح صفحةً للبحث والجدل النّافع الذي يُحرِّك أدمغةً ترنو إلى تمحيص واقع لغتنا وتريد لها وجودًا يتناسب مع العصر وجودًا جاذبًا لا منفِّرًا بحيث يُكتَب في هذا المسح الدّرْسي اللّغوي عنوانٌ عريض ألا وهو: إلى أيِّ النوعين يُقبل النّاس أإلى تلك اللُّغة الساحرة الأدبية أم إلى اللغة التي حُجِزت بقواعد فُصلت عن نصوصها؟

يمكن لي أن أتسرَّع وأقول وأنا أكتب رأيي في هذا المسح الدّرسي للواقع اللُّغوي إنَّ العربية اليوم بحاجةٍ إلى إعادة كتابة قواعدها بلغةٍ أدبية أي بلغة مُعاشة كتلك التي كتَب بها سيبويه كتابه فقد صبَغهُ بلغةٍ تتماشى والزّمن الّذي ألفه فيه؛ إذ إنَّك تجد في الكتاب لغةً حيَّةً تستحضر فيها المجتمعَ في ذلك القرن فترى كيف كان يعبِّر العرب عن أغراضهم بوساطة تراكيب لغويَّة تتيحها اللُّغة المستعملة من أولئك الأجداد، فلا يمكن للنحو الذي يُستهزأ ُبه أن يتخلَّص من هذه الهجمات إلا بإعادة حياكة ثوب جديد له يقوم على أن تكون القاعدةُ متراقصةً في نصوصٍ تزيل الحواجز بينها وبين الاستعمال اليومي.

فالخلاصة لا أدب بدون لغة مُتْقَنةٍ في الأداءٍ موافقةٍ لقواعدها ولا لغة بدون منتجٍ أدبيٍّ متدفق يُضفي على القاعدةِ حيويةً وصلةً بالواقع الذي تُقال فيه، التكامل يكون بدمج العنصرين الأدبي والنحوي وأيُّ تقصيرٍ في أحدهما ما هو إلّا انعكاسُ ضعفِ الجناح الآخر، ولكن على الرغم من هذا التكامل فإنَّ المتتبع يرى أهمية تكثيف المنتج الأدبي بوضع أسسٍ تنمّي الذّائقة وتربّي الرّاغب في الأدب على أسس الكتابة والإبداع وفنون الكتابة. صحيحٌ أنّ الأدب فطرةٌ من الخالق لكنَّ هذه الفطرة يجب أنْ تُهيَّأ لها يدٌ ترعاها وتشدُّ من عزمها بحيث يكتشف الـمُنمِّي لها مواطن تَفَوُّقِها ويضع يده على مواطن الضعف فيها؛ حتّى لا تضيع مواهب لعدم وجود من أمسك بمفتاح ظهورها فخبَتْ وغادرتِ الحياةَ دون أن تُكتَشف، وربَّما كانت ستولّد محمود درويش آخر ونزار بصورةٍ متجددة، وطه حسين بقلمٍ جديد، والرَّافعي بتحليقٍ روحيٍّ معاصر.

الأديب رسالته تسمع أكثر ولغته لها من القَبول ما يفوق ذلك اللُّغوي الّذي حصر نفسه في زاوية القواعد وحسب. فاللغة كما قال ابن جني: "أصواتٌ يعبِّر بها كل قومٍ عن أغراضهم" وبهذا فإن الأديب أشدُّ صلة من النحوي بالمجتمع.

ولو تتبعنا مسيرة الإبداع الأدبيّ بخطواتٍ إلى الخلف منذ ظهور معالم المتفوِّقين والمبرزين في الأدب العربي لوجدنا أنّ كثيرين منهم تهيَّأ لهم من كشف موهبتهم فدفعهم بكلمة ومنهم من هيئ له مدرسة كاملة تلقَّى أصول فنِّها وهذا ممتد في جذوره حتى الجاهلية التي نقلت كتب الأدب وجودَ مدارس فيها للفن الأدبي كمدرسة زهير بن أبي سلمى التي أنتجت عددًا من الشعراء، وعليه فإن الأديب يكون بذرة اللُّغوي القادم فالمتمكن من الفن الأدبي رسول لغتنا والنَّاشِر لها والمطبِّق لقواعدها الباث فيها روح الحياة.

فالأديب رسالته تسمع أكثر ولغته لها من القَبول ما يفوق ذلك اللُّغوي الّذي حصر نفسه في زاوية القواعد وحسب. فاللغة كما قال ابن جني: "أصواتٌ يعبِّر بها كل قومٍ عن أغراضهم" وبهذا فإن الأديب أشدُّ صلة من النحوي بالمجتمع؛ لأنَّه يعطي هذه الأصوات كلماتٍ ومعاني تغذِّي اللُّغة وتجعل الناس يجدون فيها ما يعبر عن أغراضهم وذواتهم وهمومهم؛ لأنَّه طبيبُ المعنى ورفيق الهواجس ومطلق الأفكار تأوي إليه النفوس العطشة لمن يرويها بالمعنى الزلال الذي يستخرجه من صدور الناس بكلماتٍ تصف حالهم بصورة تفوق وصفهم لأنفسهم فيكون لكلماته ظلالٌ تتّحد فيها النَّفس الإنسانية من مشارق الأرض إلى مغاربها.

فالأدب عزفٌ روحيٌّ والروح تعشق الموسيقى التي تدندن على نغماتها الشفافة، فلنكتشف المواهبَ الأدبية في بيوتنا في شوارعنا في مقاهينا ومدارسنا ولا نجعل سوط القاعدة مسلطًا على كلِّ خطأ حتى لا يفرَّ النَّاس من لغةٍ هي هبةٌ من الله وآيةٌ من آياته العظيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.