شعار قسم مدونات

أرني أنظر إليك

blogs- تاريخ إسلامي
مضنى السؤال، شغوف الحال، مقرباً نجيّا، أربعين ليلة من الميعاد، والصحف تتلى يا كليم الله، حتى تسامي به الطلب، وألح عليه الوجد والتعب، فأشرقت في نفسه اللحظة، وطافت بذاته الوقفة، فتلوى بباب الجلال راغبا، ونطق الحرف عن بوحه هامسا "أرني أنظر إليك".
 

هذي مساحات الباحثين، كلما حملك التيه على المسير، والطريق يشح عليك بالدليل، والإشارات تتوالى تباعا، والتفكر يزيدك التياعا، تصغي إلى ما لم تكن تصغي إليه، وترى ما لم يكن يوما في مدى النظر لديك، وتلقي بالاً للمنسي من الخواطر، ويجذبك من الدقائق ما لم تمعن فيه النواظر، ثم تغدو بلسان حالك سائلاً "أرني أنظر إليك".
 

أي إلحاح هذا الذي يهزك، وأي تقلب هذا الذي يؤزك، في سماوات الاتساع، وفراغات الامتلاء، وأراضي الارتحال، كم مضى عليك في الطور واقفا؟ والقبس يناديك منذ دهور، تخشى خلع النعلين والعلائق، وتكتفي من الحياة بالرعاة والخلائق، وما استأجرك ثمانية حجج، إلا لتتم عشراً من عندك فتصل الاكتفاء، ثم تلقي بها عند أول نداء مقدس، عصاً تتلوى بعد الهش، ويداً تبيّض من دون سوء، والحق كليمك، والقرب نصيبك، والنجوى منك إليه بعد النجاة والرسالة "أرني أنظر إليك".
 

هذا مقام التسامي فوق كل مطلوب، والترفع فوق كل لهاث، فمن كانت الرؤيا طلبه المطلق، وغايته الأرفع، لن يلتفت لمقامات الانشغال عنه وإن عاركها، ولن يلقي بالاً لصراعات التصاغر وإن جاوره.

منذ النطفة الأمشاج صار الابتلاء، والظلمات ثلاث تتوالى، ثم كان المنُّ بالخروج، والجود على العدم بالوجود، فطفقت تنهل من الحياة أول أنفاسك، وتثبت على أرضها أول خطواتك، وتتفكر فيها أول تساؤلاتك، ماذا لو بقي النفس كأول نفس على الدوام؟ وماذا لو كانت كل خطوة كأول الخطوات في كل مقام؟ وماذا لو كان التفكر وليداً في كل لحظة، وحديث عهد الدهشة في كل جولة، ألن يغدو مدار بحثك قائما، وسبيل رحلتك ممتدا، وأجوبة الأمس أسئلة الغد؟ وبينها سؤال يتردد في الأنحاء "أرني أنظر إليك".
 

ثم جاء الرد بالمحالة، ودُك الجبل مُنبئاً عن الاستحالة، وخر الطالب صعقاً مُدرِكاً عظم الطلب وسر السؤال، بأن أصل الرحلة طلب الرؤيا وإن لم تتحقق، وأن البحث مدار الأمر وإن لم تصل، وأن السؤال مقصد النداء وإن لم يُجب، فالأمر يا كليم الله جلل، وما تتهيأ له استوجب التكليم دون حجاب، ودَكَّ الجبلِ أمامك دون مواربة. فلن تخرّ صعقاً لما هو دون ذلك، ولن تسأل غيري من هو دوني، مطلوباً هو دون رؤيتي، ولم يكن لتصل هذا دون إلحاح "أرني أنظر إليك".
 

هذا مقام التسامي فوق كل مطلوب، والترفع فوق كل لهاث، فمن كانت الرؤيا طلبه المطلق، وغايته الأرفع، لن يلتفت لمقامات الانشغال عنه وإن عاركها، ولن يلقي بالاً لصراعات التصاغر وإن جاورها، ولن يضيره عجل السامري الذهبي ولو ملأ خواره الآفاق، فقد قُرّبتَ نجيّا وواعدك الحق أربعين ليلة وخرّ الجبل لما تسامت بك الطريق وأخذك الوجد إلى مطلق الغايات "أرني أنظر إليك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.