شعار قسم مدونات

الأخلاق بين الدين و اللادينية

blogs ظاهرة الإلحاد

قلت في المقال السابق إن الإيمان بما هو توجه نحو المطلق وبحث عمّا هو مفارق بطبيعته أي ما لا يوجد في الواقع والتاريخ، وإنما ينتصب كغاية يسعى نحوها الإنسان، يضع الأخلاق في أفق أوسع هو أفق البحث عن المفارق والمتعالي. هنا لا تكون الأخلاق مؤسسة أو مفسّرة بواسطة السببية التي تجعلها مشدودة الى الأرض والواقع، وإنما تكون مؤسسة ومفسّرة بالغائية المتعلقة بالمفارق والمتعالي والمطلق.

 

في غياب الإيمان بما هو أكثر من المادة والإنسان والتاريخ يختفي هذا البعد من الأخلاق. هنا لا وجود لمطلق أو متعال ولا حتى كغاية ينشدها الانسان، وليس هناك أمل في وجود حقيقة مستقلة تكون سندا أنطولوجيا للأخلاق. هنا لا أتكلم عن الادعاء الديني بامتلاك المطلق، وإنما فقط عن الإيمان بوجود أو بإمكانية وجود مطلق، أو الأمل في ذلك.

 

في غياب هذا الإيمان بدرجاته وأشكاله المختلفة، فإن كل شيء قد حدده الإنسان، ولا أمل في وجود أساس مفارق للخير أو الشر، بل لا وجود للخير والشر إلا في حدود التاريخ الإنساني، فنحن الذين صنعنا الخير والشر، وفي أقصى مدى ممكن تكون الطبيعة أو الغريزة هي التي أملت على علينا الخير والشر والأخلاق بأسرها.

 

ولكن هل معنى ذلك أن غياب الدين أو الإيمان على المستوى الفكري والفلسفي يعني غياب الأخلاق على المستوى العملي الواقعي؟ بعبارة أخرى هل اللا ديني أو الملحد هو بالضرورة إنسان بلا أخلاق؟

 

الإجابة لا، والسبب هو أن الأسس الفلسفية والاعتقادية ليست هي العامل الوحيد في صناعة الأخلاق على المستوى الواقعي. لا أقول إن الفكر أو الاعتقاد لا علاقة لهما ألبته بالممارسة الأخلاقية على أرض الواقع، وإنما هناك عوامل أخرى، هذه العوامل هي التي تفسّر السلوك الأخلاقي المنافي للاعتقاد حتى عند أصحاب العقائد الدينية. لو اعتمدنا على المقارنات الفلسفية المجردة، والأسس والغايات التي يوفرها الإيمان الديني، والتي لا وجود لها في الإلحاد واللادينية، فلن نصل الى إجابة واقعية عن أخلاقية اللا ديني أو الملحد. مثلما أننا لن نحصل بذلك على إجابة واقعية عن أخلاقية الإنسان المتديّن، ولا عن الأخلاق في المجتمعات المتدينة.

 

على أرض الواقع قد توجد الأخلاق كثقافة سائدة، الناس يجسدون هذه الثقافة كسلوك طبيعي وعادي، حتى دون الشعور بعبء الالتزام الذي توحي به كلمة "أخلاق". فما نعتبره أخلاق ودين في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، وما نعتبر الالتزام به أشبه بالعمل البطولي أو حتى الاسطوري الذي يستحق التمجيد، قد يكون في مجتمعات أخرى ثقافة سائدة بلا مدلول ديني ولا حتى أخلاقي. والعكس كذلك قد يكون صحيحا، فقد يكون ما نمارسه كثقافة عادية هو شيء مثير للعجب والاندهاش في مجتمعات أخرى.

 

و لأن المستوى الاجتماعي والثقافي يمارس تأثيرا أكبر من المستوى الفلسفي والفكري، فليست الفلسفة ولا العقائد هي التي تقود السلوك بقدر ما هي الثقافة والأعراف والتقاليد.و هنا إذا أردنا معرفة أخلاق الملحد أو اللا ديني أو المتدين فالأفضل أن نبحث عن المجتمع والثقافة أيضا، وليس فقط المواقف الفلسفية أو الاعتقادية.

 

لا يمكن اختزال الانسان في بعد واحد، هو موقفه الفلسفي أو الفكري. فليس هناك إنسان لاديني أو ملحد أو مسلم وكأنه كيان فلسفي أو ديني محض موجود في الفراغ

بالطبع هناك بعض الناس الذين يتماشى سلوكهم مع فكرهم، ولكن عموما الإنسان بما في ذلك الناس الأكثر أصالة واستقلالا، الذين يفكّرون باستمرار في كل شيء، لا يتغير سلوكهم العملي بنفس درجة ومقدار تغيّر أفكارهم ومواقفهم الدينية والفلسفية. فالأفكار تتغير بسهولة أكبر، وبحرية أكبر، وهي خاضعة لملكة التفكير والنقد، أي الأفكار خاضعة لطبيعة الفكر نفسه، وهذا بديهي، بينما السلوك العملي لا يخضع بالقدر نفسه للفكر، لأنه يوجد في مستوى مغاير لمستوى وجود الأفكار، هو المستوى الاجتماعي الواقعي، والذي تحكمه عوامل مادية واقعية موجودة في المجتمع والثقافة، وهي تمارس تأثيرها بدرجة ما على الفكر نفسه.

 

كذلك لا يمكن اختزال الانسان في بعد واحد، هو موقفه الفلسفي أو الفكري. فليس هناك إنسان لاديني أو ملحد أو مسلم وكأنه كيان فلسفي أو ديني محض موجود في الفراغ، وإنما هناك إنسان منغرس في تاريخ وحضارة ومجتمع وثقافة، أي إنسان له أبعاد وارتباطات أخرى كثيرة تدخل في تكوينه. لهذا السبب فقد تجد الملحد (أو المسلم أيضا) العربي ينتمي الى، ويعبّر عن، واقعه التاريخي بأكثر مما يعبّر عن موقفه الفكري أو عقيدته الدينية. بالطبع هناك دائما استثناءات وهي كثيرة بكل تأكيد، ولكن عندما نأخذ الأمر من المنظور الجماعي فإن الأغلب هو كذلك.

 

هذا بالنسبة للأفراد، وكذلك المجتمعات والثقافات هي ليست كيانات خالصة، فليس هناك مجتمع ديني خالص، وأخلاق دينية خالصة أنزلت من السماء. وإنما الدين يدعو الى الأخلاق الإنسانية الموجودة أصلا والتي يوجد حولها إجماع إنساني كبير إن لم يكن مطلق، ولكن المشكلة هي دائما عدم الالتزام بها، فالدين يدعو الى الالتزام والتمسك بالأخلاق الفاضلة لأن المشكلة ليست وجود هذه الأخلاق أساسا، بقدر ما هي في ممارستها، وهي المشكلة الأبدية للأخلاق. وكذلك ليس هناك مجتمع علماني أو لا ديني أو ملحد محض وكأنه موجود في فراغ بلا تاريخ سابق وبلا تأثير من الدين. فإذا كان الدين قد تبنى الأخلاق الإنسانية الموجودة وأعلى من شأنها وحث عليها، فإن العلمانية أو اللا دينية أو الإلحاد تتبنى الأخلاق نفسها التي كرسها الدين، مع بعض النقد والاختلاف. وهنا نصل الى نقطة مهمة، وهي النقد الأخلاقي للدين.

 

فهناك جانب كبير من النقد الذي يوجهه الملحدون واللا دينيون إلى الدين مبنى أساسا على الأخلاق الإنسانية والتي دعت اليها الأديان نفسها. مثل أفكار العدالة والرحمة. هناك ممارسات كثيرة في الدين أصبحت تنتقد على أسس أخلاقية. والمفارقة هنا هي أن المتدينين يدافعون عن ما هو غير أخلاقي -وفقا للوعي الإنساني الراهن السائد عند الكثيرين- باسم القدسية والتعالي. بعض العقوبات مثل الرجم وقتل المرتدين عن الاسلام، أو بعض الأحكام المتعلقة بالآخر في الإسلام هي أمثلة لموضوعات يدور حولها نقاش على أساس أخلاقي ليس فقط بين المسلمين واللا دينيين، وإنما أيضا بين المسلمين أنفسهم.

 

النقاشات التي أشرنا اليها آنفا تؤكد وجود هذا الفرق عند الكثيرين. فأن ترتكب جريمة لأنك تعتقد بأن الدين يأمرك بذلك، هذا يدل على ضعف أو تغييب أو انعدام للوازع الأخلاقي

للمزيد حول هذه النقطة يرجى الرجوع الى المقال السابق "الأخلاق والدين". وهي أيضا النقطة التي تقودنا الى التساؤل حول الفرق بين الوازع الديني والوازع الأخلاقي. هناك نقاش ديني معرفي بالطبع، حول هذه القضايا وأنها أصلا ليست من الدين، أو ليست من جوهر الدين، ولكن الاحتكام الى المعرفة في قضايا أخلاقية يجعل الأخلاق مرهونة لهذه المعرفة، ومن هنا ينتظر البعض النصوص الدينية لتفتيهم فيما هو أخلاقي وإنساني، في تغييب كبير للضمير الانساني الحر، وللعقل الذي يدعو الدين نفسه الى إعماله.

 

بالنسبة للبعض ليس هناك فرق الوازع الديني والوازع الأخلاقي فهما نفس الشيء، ولكن النقاشات التي أشرنا اليها آنفا تؤكد وجود هذا الفرق عند الكثيرين. فأن ترتكب جريمة لأنك تعتقد بأن الدين يأمرك بذلك، هذا يدل على ضعف أو تغييب أو انعدام للوازع الأخلاقي، أما أن ترفض ما يعتقد بأنه من الدين باسم الأخلاق، فهذا يدل على العكس.

 

ولكن في النهاية، في كلتا الحالتين هناك خضوع لإملاء أعلى، وهذا يعيدنا أيضا الى الكلام عن ثنائية الصورة والمضمون بالنسبة للفعل الأخلاقي كما تناولتها في مقال سابق هنا بعنوان "ما هي الأخلاق": أو ما هو جوهر الأخلاق، هل هي صورة الالتزام المجردة، أم هو مضمون الفعل وتأثيره في أرض الواقع، على الإنسان.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.