شعار قسم مدونات

إلى فتاة تتمنى الحجاب

blogs- الحجاب

قبل عشرة سنين من الآن أتممتُ حفظ القرآن الكريم، وكانت ردّةُ فعلي الأولى أنني بكيت، بكيتُ لفرط سعادتي، بكيتُ لأنني شعرتُ أنني وُلدتُ من جديد، بكيتُ لأنني حفظتُ قلبي بكتاب الله، فكان له حجابَ طهر وعِفَّة، وفي ذات العام هزَّ خبرُ ارتداء مذيعة قناة الجزيرة خديجة بن قنة الحجابَ العالمين العربيِّ والإسلاميِّ، ذلك اليوم كنتُ في إحدى بقالات القرية، وكان الظهورُ المفاجئ لخديجة بن قنة بالحجاب، لم أستطعْ أنْ أحبس دمعتي مع أنني ذو جَلَد، ولا أبكي إلا لما يستفزُّ مشاعري، وكذلك فَعَلَ حجابُ خديجة، ولكنني لم أكن الوحيد، فقد كان بائعٌ بالجملة بجواري والذي بدوره قفزَ فرِحًا وقال: "يِسْعِدْ دِينِك ما أجْمَلِك" كنايةً عن فرط سعادته بها وثناءً على فِعلها، وذات الفرحة عمّتْ وارتسمتْ على وجوه كثيرٍ من العرب والمسلمين، لم يكنْ فتحًا إسلاميًا، لم يكن تحرير أرضٍ مُحتلَّة، لم تكن صفقة تبادلٍ للأسرى، لم يكن انتصارًا في إحدى الحروب، كانَ حجابًا..!

"إلى فتاة محجبة" مقالٌ نُشر على منصة مدونات الجزيرة-قرأته مؤخَّرًا- استفزَّ التَّوْق واستنهض الشوق في داخلي لأنْ أرى كلَّ فتاة مسلمة، بل كلَّ فتاةٍ في العالم تضعه وترتديه، ليس لأنَّه يجعلها أجمل-كما يقول البعض-، فلربما تكون أجمل ولربما تكون أقلَّ جمالًا به-إن حصرنا الجمال في إطارٍ ظاهريٍّ بحت-، ولكنَّه في الدرجة الأولى امتثالٌ لأوامر الله عز وجلّ، انتصارٌ لدينه، تغلُّبٌ على شهوات الدنيا وملذاتها، فقبل أن نستشهد بما قال الله وقال الرسول، علينا أن نعلم ماذا أراد الله وأراد الرسول، أرادوا قلوبًا طاهرة، قلوبًا عفيفة، قلوبًا نقيِّةً من كل شائبة، فإنَّ القلب لا يطْهرُ ولا يعِفُّ ولا يكونُ نقيّا خالصًا إلا بإتيان الفروض والواجبات، وكفِّ النفسِ عن الأذى والمُحرَّمات، علمًا ويقينًا أنَّ الطهر والعِفَّة درجات، فَفُرض حجاب القلب قبل حجاب الجسد، وكان حجابُ القلب فرضًا على المؤمنين والمؤمنات، فجاء أمرُ الله بغضِّ البصر وحفظ الفرج، ثمَّ فُرض حجاب الجسد على المرأة تمامًا وكمالًا لحيائها وعفتها، وِفْقَ تتابع قرآنيّ ربانيّ؛ حكمةٌ بالغةٌ لا تغني عنها أيُّ كتب ومؤلفات أو بحوث واجتهادات.

إلى فتاة تتمنى الحجاب، فإنِّي من هنا أقف احترامًا وإجلالًا لجميل قلبك، لتلك المشاعر التي فاضتْ شوقًا وتوقًا للحجاب، ولْتعلمي أنَّ تلك الصعوبة تنحني أمام العزائم الراسخات كالجبال الرواسي، تتلاشى كلّما كنتِ من الله أقرب

حكمةُ الله في خلقه، جعلتْ لكلِّ مخلوقٍ طبيعة خلقٍ مختلفة حتى لو كان المصدر واحدًا، ويمكن تبسيط هذا الأمر علميًا بالرجوع لعلم الجينات، فالنمط الجيني مع عوامل البيئة يشكلان النمط الظاهري، فأنْ يكون للكائنات الحية نفس النمط الجيني لا يعني أنَّ لها نفس المظهر أو السلوكيات، وذلك لأن النمط الظاهري يتأثر أيضًا بالبيئة؛ والسلوكُ والمظهر يتغيران بتأثير الظروف البيئية والنمائية. وبالمثل؛ الكائنات الحية التي تبدو متماثلة ليست بالضرورة أن تكون ذات أنماط جينية متطابقة. 

هذا الأمر يفسِّرُ طبيعة الاختلاف في المظهر والسلوك بين الذكر والأنثى مجتمعَيْنِ، أو كلٌّ على حِدَةٍ ذكرًا لذكر أو أنثى لأنثى من حيث ترجمة الفروض الشرعية والتي في جُلِّها تتماثل أو تتشابه. والحجاب ككلِّ غلافٍ يغطي ما هو ثمينٌ ونفيس، كغشاء القلب والرئتين، ومع أنَّ لكلِّ عضو دوره وأهميته، إلا أنّهما يتربعان على عرش الجسد، وتجتمعُ فيهما جلُّ حياة الإنسان وديمومته، وكل إنعاش لهذه الحياة لا يمكن إلا أنْ يكون بهما، كنفاسة المرأة في مجتمعنا وديننا، فلا يُفرضُ عليها قتال، ولا يُستوجبُ منها عملٌ، ولم تُؤمر بقوامة، هي ملكةٌ تتربعُ على عرش الجمال والوقار وتاجُها حجابٌ يحفظُها من كلِّ قلبٍ مريضٍ أراد أنْ يمتِّع ناظريه دون وجه حقٍّ وفي إطار لا تقبله شريعة الإسلام، ولا يقبله خُلُق.

لم يكن الحجابُ يومًا غطاء رأسٍ، أو قطعة قماش ثمينة، أو طقسًا اجتماعيًا أو عُرفًا دينيًا خاصًا بالمسلمات فحسب، بل هو تاج الوقار في كل الشرائع السماوية، فنقرأ في العهد القديم: "وكانَت سوسَنَّةُ لَطيفَةً جِدّاً جَميلَةَ المَنظَر. ولَمَّا كانَت مُبَرقَعَة، أَمَرَ هذانِ الفاجِرانِ أَن يُكشَفَ وَجهُها، لِيَشبَعا من جَمالِها" (دانيال 13 :31-32) ونقرأ في العهد الجديد: "وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس 9:2) ولكنني لن أقول لك أنَّ طريق الحجاب مفروشة بالورد، هي صعبةٌ بل قاسية، في حياةٍ امتلأت بصرعات الموضة، وحصرت جمال الفتاة في عرض مفاتنها، لتتصيدها عدسات الكاميرات، وتتمتع برؤيتها قلوبٌ مريضة، أكثرُ ما تخشاه على المرأة حياؤها، عفَّتُها، طهرُها. لا أقول أنَّك لست طاهرةً عفيفة من غير حجاب، ولكنَّك به تكونين بأسمى آيات الطهر والعِفَّة ما دام داخلك وباطنك متوشحَيْنِ بهما.

أغمضي عينكِ لتبصري تلك الطريق إلى الله، ثم انظري لنفسك وستشعرين وكأنك وُلدتِ من جديد، ومهما قالوا لك لا تأبهي لهم، فحجابك لله، لله وحده

إلى فتاة تتمنى الحجاب، فإنِّي من هنا أقف احترامًا وإجلالًا لجميل قلبك، لتلك المشاعر التي فاضتْ شوقًا وتوقًا للحجاب، ولْتعلمي أنَّ تلك الصعوبة تنحني أمام العزائم الراسخات كالجبال الرواسي، تتلاشى كلّما كنتِ من الله أقرب، تنحسر حين تعلمين يقينًا أن الثمن الذي تدفعه الفتاة لارتداء الحجاب هو ذلك الذي يدفعه شابٌ في مقتبل عمره في الأسر لأنه اختار الطريق إلى الله، هو ذلك الذي يقدمه شاب باع روحه لله ليُعْليَ كلمة الحق، هو ذلك الذي يدفعُ فتاةً بكلِّ أنوثتها وجمالها وحيائها وعفتها لتذوق مرارة السجن، لتدفع ثمن اختيارات والدها وإخوتها، هو ذلك الذي بذلتْهُ أمٌّ قدَّمت أبناءها جميعًا شهداء، هو الله، توقٌ إليه، وشوقٌ لنعيمٍ أعدَّه للصابرين، إذ قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

تقفين أمام المرآة، تنظرين لنفسك، تحدقين في كلِّ تفاصيل وجهك وشعرك المُسدل على كتفيك، تحدثكِ نفسُك، تقول لك: كم أنت جميلة دونه! تغريك بعمل ومنصب وشهرة، تحذركِ من مغبة ارتدائه، تغرِّرُ بكِ، تتوعدك بفقدان جزء من جمالك، تقول لكِ: لن تعودي تلكَ التي عرفها الجميع بتألقها، بحضورها، بإشراقتها، بطلعتها.. تكثرُ من الحديث إليكِ، ثمّ تقاطعينها، بابتسامة واثقة، بقلب خاشع مرهف، تقولين لها: إنّك لأمارةٌ بالسوء! فقد عرفتُ الهوى الآن، كيفُ يكون المُحبُّ لمن يحبُّ مطيعًا، كيف أوثر ولو كان بي خصاصة، كيف أُوقى شُحَّكِ لأكون من المفلحين.. تأخذين قطعة القماش تلك وتضعينها، ثم حين تقاربين على النهاية أغمضي عينكِ لتبصري تلك الطريق إلى الله، ثم انظري لنفسك وستشعرين وكأنك وُلدتِ من جديد، ومهما قالوا لك لا تأبهي لهم، فحجابك لله، لله وحده، وأما عنّا؛ فستُعيديننا إلى الوراء عشرة سنين كتلك التي سبقتْ، وسيكون نصرًا، أقصد سيكون حجابًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.